حين وقف القائد الفيتنامي العظيم هوشي منه ليخاطب جموعا غفيرة من الشعب الفيتنامي اثر موافقته على اتفاق باريس مع الولايات المتحدة ، كان يسمع هتافا واحدا يتردد بصورة مجلجلة من الجموع " خائن ، خائن ، خائن ، خيانة ، خيانة ، خيانة " ، احنى " هو " راسه كي تهدا الجموع قليلا ، لكنه أيضاً احناها ، اعترافا منه بان الاتفاق الذي حصل عليه ، لا يعكس ما وعد به الشعب الفيتنامي .
رفع " هو " راسه ، ونظر في عيون الناس ، ثم قال ، " صحيح ، ما تقولون صحيح تماماً ، لكن تذكروا ، هذا ما حصدت بنادقكم المقاتلة ، وان أردتم اكثر من هذا الاتفاق ، عليكم ان تقدموا اكثر مما قدمتم حتى الان " ، فهم الفيتناميون قائدهم العظيم ، فهموا بانه لا يريد من كلامه تمرير الاتفاق ، بل يريد شحذ الهمم لمعركة اخرى ، من اجل نتائج يرضى ، ويرضون عنها ، وذلك ما كان من امر فيتنام لاحقا .
اقول ذلك ، لأني اعلم مقدار الأسى والألم ، الذي يسيطر اليوم على كل أبناء حركة " فتح " ، فمقابل كل عين تضحك للفائز ، الموالي او المتمرد ، هناك عين اخرى ، تحزن وتتحسر ، على ما وصل اليه الحال في هذا العصر ، عصر لا تستطيع الحركة فيه ، التفوق والفوز بانتخابات ، حتى دون منافسة تذكر ، لانه عصر مصمم على أضعاف " فتح " وشق صفوفها ، على تدمير حاضرها ومستقبلها ، وتحطيم الإرادة الحرة لأبنائها ، في اختيار ممثليهم المحليين .
الإكراه والضغوط التي مورست على أبناء " فتح " لا يمكن تمييزها إطلاقا ، عن الضغوط التقليدية للنظم العربية الساقطة ، من فصل واحالة مبكرة على المعاش ، وملاحقات وكيل الاتهامات ، وكل ذلك في اطار نهج نمطي ، يشمل معاقبة المتنافس الفتحاوي الحر في البلديات ، كما في كرة القدم والرياضة ، كما في الاتحادات الشعبية ، وهو نهج يعكس تماماً ، تفكير ووعي محمود عباس المتدني ، لقيمة الشعب ، او لقوة كلمته الفاصلة ، ومع كل هذا ، الشعب قد قال كلمته بالامس " جفت الأقلام ورفعت الصحف " .
محمود عباس مؤمن تماماً ، وهو لا يخفي ذلك ، ان لا قيمة لشيء اسمه الرأي العام ، فالجموع من وجهة نظره المتعالية و المغرورة ، هي كتل بلا ارادة ، وجسد بلا عقل ، وان كان اقتناع عباس ذلك ، دون قواعد او جذور طبقية شخصية او عائلية مبررة ، لا عندما كان عامل " take away " ، يوصل الطعام الى البيوت ، ولا عندما اصبح موظفا بسيطا في قطر ، ومثل أغلبنا ، من مثل تلك الجذور الشعبية نشا ، اما العز والدلال الذي عاشه ويعيشه ، هو وأسرته ، أبناؤه و أحفاده وأقرباؤه ومقربوه ، فهو من حساب ، وعلى حساب تلك الجموع الشعبية التي خانها ، داخل فلسطين وخارجها .
عباس لم يتميز يوما بالعطاء ، ولا أسرته خذلت مسار خطاه ، فقد اخذ ، واخذوا الحد الأقصى ، واكثر ، من الدلال والعيش الرغيد ، اعلى تعليم وافخر علاج ، اجمل الملابس واكثر السيارات رفاهية ، حسابات مليئة بالمال الحرام ، ويحرق الفائض " سيجارا " كوبيا فاخرا ، او يحرق وقودا ، لعشرات الآليات والسيارات التى تحت تصرف العائلة، دون ان يتغبر لهم حذاء في معركة ، او يحترق لهم سروال ، او يجرح لهم اصبع .
فما حاجة شخص ، مثل عباس هذا ، لوحدة " فتح " وعنفوانها ، ما حاجته الى الصراحة والروح المستقلة ، التي تربت عليها أجيال " فتح " ، وما حاجته لمن يملك القدرة على نطق كلمة حق ، ولماذا يكون هناك من يمكن ان يقول " كفى " ، فكل تلك ، مظاهر غير صحية تضع قيودا على سلوك " الفرعون الملهم " ، واحمالا تثقل كاهله .
واقول ذلك ايضا ، لأني اعلم ، ان ما يجري مخطط شيطاني للقضاء على "فتح " ، ففي تمزق الحركة وانكسارها ، يكمن أمان عباس من حساب المستقبل ، او ذلك ما يعتقد هو واهما ، وهو بذلك الاعتقاد يتصرف بحماقة اب أناني ، يترك لأولاده وأحفاده تركة ثقيلة للغاية من الملاحقة والمحاسبة ، فالشعب لن يترك حقوقه عند عمار ونادر ومحمود ، او عند أولاده الكبار ، ولن تفعل " فتح " أيضاً ، وجرائم السنوات الثمانية الماضية ، الدموية منها والمالية ، هي لائحة اتهام خالدة ، ووسام عار ابدي ، تحرص ال " أنا " العباسية المعروفة ، نقل ذلك الوسام الى صدر أبنائه ، وأبنائهم من بعدهم .
طبعا تستطيع " فتح " ان تلملم جراحها ، وان تغسل بسرعة " الدماء الانتخابية " ، التي أريقت على سجادة المحليات ، كما يستطيع الفائزون ، متمردون وموالون ، ان يجمعوا صفوفهم ، ويحولوا ، اكثر انتخابات سياسية وتنظيمية ، معلنة ومفتوحة ، في تاريخ " فتح " ، الى نتائج وحدوية ، تؤهلهم لتقديم ما وعدوا به ، من قدرة على " خدمة " الناس ، في اطار الإمكانات المتوفرة ، بل وتطوير تلك الإمكانات داخليا وخارجيا ، لما يملكون اليوم من مصداقية وتفويض شعبي شرعي قوي .
امل حقيقي براودني ، بان تكون حكومة الدكتور سلام فياض ، متعاونة الى اقصى حد ممكن ، مع هذه القوة الشرعية المنتخبة ، بتخفيف قبضة الحكم المركزي ، لصالح اقصى إدارة لا مركزية ، في الملفات البعيدة عن شؤون " السيادة " ، وان كانت كلمة " سيادة " مجافية لواقع حال السلطة في عصر عباس ، و " واسعة " في وصف الوضع القانوني الواقعي للسلطة ، وقد يكون ذلك اخر خدمة كبيرة يقدمها الدكتور فياض للشعب الفلسطيني في حكومته الحالية .
محمود عباس ، ولسبب ما ، اعتقد بان هذه الانتخابات ، ستكون تجديدا وتفويضا ، لنهجه وحكمه ، ولأجل ذلك ، تشدد في اختيار الموالين ، وتشدد اكثر ، في قمع واضطهاد الرافضين ، واعتقد ان نتائج الانتخابات ، ستنجيه من نار وعوده الجازمة ، وتهديداته الفارغة بالرحيل عن الحكم ، لكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر ، ونجاح " فتح " اسقط مسعى عباس ، للعودة مجددا ، غير مدرك بعد ان عهده قد مضى .
واقعيا ، صوت لحركة " فتح " اكثر من 80% من الناخبين ، في حين لم يصوت لعودة محمود عباس اكثر من 20% من الناخبين ، وينطبق الامر أيضاً على عدد من اعضاء مركزية " فتح " ، من النواة الصلبة للتيار العباسي في الحركة ، لكننا لن نرى رؤوسا تتدحرج ، ولن نرى الكرامة وعزة النفس ، تحملان البعض على الاستقالة والانزواء ، بعد ان فشلت مخططاتهم ، واحترقت كل أوراقهم .
لقد كان مثل أولئك ، عباس ونواته الصلبة ، كمثل مدرس احمق ، وتلميذ غبي ، يحاولان سرقة وتقاسم جائزة تفوق في الامتحانات ، فوضعا الأسئلة معا ، وراجعا مادة الامتحان معا ، وجهزا " روشيتات " الغش معا ، فدخل التلميذ الغبي الى قاعة الامتحان ، ودخل المدرس الأحمق مراقبا لها ، ليكتشفوا بانهم قد نسوا أمرا واحدا بسيطا ، فالامتحان كان يوم امس ، وليس اليوم ، فأخذوا يضربون بعضهم البعض ، ويكيلون الشتائم للجمهور المتفرج .
الإنجاز الاخر المؤكد والخطير لهذه الانتخابات ، انها افرزت كيانات محلية شرعية ، منتخبة ، مفوضة ، تشكل عمودا فقريا قويا ، لحماية السلطة الفلسطينية ، من ضغوط الاحتلال ، ومن المتامرين الداخليين الذين يهددون ليل نهار بتفكيكها ، والقاء مصالح اكثر من اربعة ملايين فلسطيني ، الى قارعة الطريق ، وهي انتخابات ناجحة ، وضعت كل تلك الجهود السوداء في مهب الريح ، فلا احد يستطيع ان يناقش اليوم ، او يسائل شرعية هذه القوة المنتخبة .
ربما كان من المصلحة الوطنية العليا ، توسيع دور هذه القوى المنتخبة ، في الحياة الوطنية الفلسطينية ، في زمن دمر فيه الانقسام ، كل كيان وطني شرعي ومنتخب ، وتكفل عباس بتدمير كل كيان حركي شرعي ، وحول منظمة التحرير الفلسطينية الى " زوجة " مهملة في بيت الطاعة .
الأمس رحل ، وان كانت بعض مصائبه لا زالت بيننا ، والغد للناس ، وأمرهم بات الى حد كبير بين ايديهم ، على الاقل في جزء عزيز من الوطن ، والفلسطيني بدأ يستعيد نغمة الديموقراطية ، رغما عن الاحتلال ، ورغما عن الديكتاتورية ، وتلك البداية السليمة ، فقد تحرر سلاح الإرادة ، وعلى المحتل ، وأصدقائه " المنسقين " ، أنتظار الهبة الجديدة .