أخر الأخبار
تحديث الكذب
تحديث الكذب

خيري منصور

للتحديث أو العصرنة في كل ظواهر حياتنا وجهان، فالحرب أيضاً يجري تحديثها أيضاً من خلال أدواتها وأسلحتها رغم دوافعها البدائية، والفقر كذلك يتعرض للتحديث، بحيث أصبح بحاجة إلى إعادة تعريف . فالفقير قبل نصف قرن ليس هو الفقير الآن، لأن تطور الاستهلاك وسطوته جعلت من كان يوصف بأنه متوسط الحال قبل نصف قرن فقيراً مدقعاً اليوم، وكما طور الإنسان أدوات الزراعة وأفاد من المنجز التكنولوجي لتحديثها، طور أدوات التعذيب أيضاً . حتى السرقة شملتها الحداثة، فلم تعد قطع طريق بأساليب بدائية.

لكن أكثر الظواهر الاجتماعية ذات الصلة بمنظومة القيم التي شملها التحديث هي الكذب، بمختلف ألوانه، رغم أن وصف الكذب بأنه أبيض في بعض الأحيان لن يغير من واقعه ودلالاته، وهناك أعمال أدبية عالجت ما نسميه الكذب الأبيض أو البريء وجعلت منه سبباً كافياً للقتل والكوارث، منها مسرحية ألبيركامو بعنوان “سوء تفاهم”، عندما قتلت الأم وابنتها الابن العائد من هجرة طويلة للسطو على أمواله، وكان الابن قد تعمّد تغيير اسمه كي يفاجئ العائلة بما حققه من ثروة.

وفي إحدى قصص سارتر يكذب أحد الثوار عندما طُلب منه أن يخبر المحقق عن المكان الذي يختبئ فيه رفيقه، وقال إنه يختبئ في مقبرة، وحين فتشت المقبرة عثر الشرطة على الرجل الذي كان اختباؤه في ذلك المكان مجرد مصادفة.

تحديث الكذب اليوم له مجالات وتجليات عدة . منها الكذب التكنولوجي الذي يتجسد في الموبايل، فلم يعد كافياً أن يكذب الإنسان بادعائه أنه يوجد في مكان غير المكان الحقيقي الذي يوجد فيه، لهذا وظفت التكنولوجيا لتحديث الكذب، بحيث يختار الكاذب ما يشاء من الأصوات كي يقنع من يهاتفه بأنه على شاطئ البحر مثلاً أو في مرأب للسيارات أو في سوق يعج بالضجيج وأصوات الباعة.

ومن تقنيات تحديث الكذب توظيف السايكولوجيا أو ما تيسّر منها للتلاعب بوعي الآخر، وهذا ما تفعله الميديا المضللة بامتياز، فالكذب لم يعد الآن على طريقة غوبلز الوزير النازي، الذي كان رهانه هو الكذب المتكرر حتى يصدق الكاذب نفسه كما يصدقه الآخرون.

الآن توظف الصورة خصوصاً إذا كانت ملفقة لتحديث الكذب، وهناك أختصاصيون في هذا الفن، منهم خبراء في فقه التلفيق، بحيث يكون السيناريو محكم البناء، ويخلو من ثغرات يمكن ضبط الكذب من خلالها.

وهذا يعني في النهاية أن الحداثة ليست خيراً خالصاً، بل هي مشوبة بشرور قابلة للتطوير، تماماً كما هو العلم قابل لأن يحقق النجاة للبشر بقدر ما هو قابل لإبادتهم، وفي الحالين يبقى البعد الأخلاقي هو ما يجب الاحتكام إليه للمفاضلة بين حداثة وأخرى، وفي غياب هذا البعد يصبح من حقنا أن نقول مِنَ العلم ما قتل تماماً كما قيل عن الحب الذي منه ما قتل أيضاً.