أخر الأخبار
لبنان الآخر
لبنان الآخر

خيري منصور

إنه ليس لبنان طائفة أو حزب أو تيار، وحين نقول لبنان الآخر فالمقصود هو ذلك البلد الآمن والمتمدن الذي حلم به من هجعت فوبيا البارود والدخان في ذاكرتهم، منذ تلك الحرب التي كانت أشبه بزلزال توقف لكن تردداته استمرت، لبنان الآخر هو المقبل من المستقبل بكامل نصابه الديمغرافي وجغرافياه الوطنية.

وقد يبدو هذا التصور للبنان محرراً من الالغام الموقوتة والنكاية الايدلوجية والثأرية السياسية سياحياً، وبه قدر من الرومانسية ذلك بسبب فائض الواقعية بكل عنفها وقسوتها، لكن التاريخ ليس أسير لحظة أو حتى حقبة بعينها، وما وضعه واجتره جيلان لبنانيان من الحليب المر كان يكفي لبث ثقافة وقائية، تحول دون تكرار اللدغ من الجحور ذاتها، لكن لبنان ليس مشهداً محدداً فقط بإطاره الجغرافي، حتى لو قرر أن ينأى بنفسه عن هذه الأزمة المجاورة أو تلك، فقد كان ذات يوم حلبة لصراع الآخرين وبمعنى مباشر كان ساحة لحروبهم لهم الغنائم إن تبقى من الأشلاء ما يسيل عليه اللعاب وعليه الخسائر كلها.

راوح لبنان خلال الآونة الأخيرة بين هدوء مشوب بالحذر وصخب سياسي ملجوم ولم ينفجر، لكن هذه المراوحة ليست ذاتية، وثمة عوامل بل عواصف تعبث باتجاه البوصلة، ولبنان مثال لوضع تحتشد فيه التناقضات وأحياناً تتعايش وفقاً لأعراف سياسية وتضاريس طائفية، لكنها تنفجر في أحيان أخرى، عندما تنسد الآفاق وتستبد النرجسية بالطبقة السياسية التي لم تؤهل بالقدر الكافي لفقه التداول ولقدر من الإيثار الوطني على حساب الإثرة المتوحشة.

اللبنانيون بمعزل عن أية صفة أو نعت طائفي أو موقع جغرافي دفعوا ثمناً باهظاً من أمنهم اليومي واقتصادهم وحق أبنائهم في حياة عادية كسائر البشر، وكان الرهان هو أن ذلك الثمن سيتحول إلى أمصال للوقاية، والاتعاظ مما جرى، وما جرى دائماً كان ترجمة ميدانية دقيقة لاستراتيجيات تستهدف لبنان من أجل تشطيره وتشظيته إلى خطوط طول وعرض طائفية، بحيث تسطو الهويات الفرعية الصغرى والإجرائية على الهوية الأم، كما تسطو الاعشاب السامة على جذور الشجرة العملاقة.

والآن بعد أن شيعت بيروت وطرابلس كل هؤلاء الضحايا هل سيكون المشهد الدموي بداية سطر أحمر آخر أم نهاية فصل جحيمي؟

الإجابة تبدو بالغة السذاجة إذا ارتهنت للرغائب والنوايا، فلا هذه ولا تلك ولا حتى المواعظ أنجزت ما يمكن الاعتداد به من الوعي الشامل لما يمكن تسميته بلا تردد المسألة اللبنانية، فالأزمة حين تتفاقم وتجد ما يغذيها سعياً للانفجار بدلاً من الانفراج تتحول إلى مسألة بالدلالة الدقيقة لهذا المصطلح الوجودي الذي يتحدد منه ومن خلاله مصير وطن ومستقبل شعب.