أخر الأخبار
مناقشة سوريا في البرلمانات وعولمة الديمقراطية
مناقشة سوريا في البرلمانات وعولمة الديمقراطية

عادل درويش

أزمة سوريا تطرح معضلات لدارسي الفلسفة الأخلاقية وتتجاوز أبعاد تكرار التاريخ لنسخة من فصل الحرب الأهلية الإسبانية (1933 - 1936) بظهور عناصر وعوامل جديدة، أهمها التكنولوجيا، وأيضا اختلاف الـconfiguration التركيبة الأساسية لديناميكية الصراع.

للوهلة الأولى عندما تتوازى المصلحة القومية لدولة مع الموقف الأخلاقي الإنساني يسهل على حكومة بلد ما أن تجاهر الرأي العام بأنها ستجازف بمخاطر التدخل لأن إنقاذ المدنيين السوريين يتسق والمصلحة القومية. وبديهيا أن يكون التبرير أكثر إقناعا إذا اتسق العنصران أعلاه مع القانون الدولي.

لكن معضلة الفلسفة الأخلاقية هنا أن ما يبدو منطقيا بديهيا ناقض الواقع في بلاد تستمد حكوماتها شرعيتها (وترفض شرعية النظام السوري) من أسس الديمقراطية، عندما يرفض الشعب والرأي العام التدخل العسكري رغم اتساق المطلب الأخلاقي مع المصلحة القومية (افتتاحيات الصحف مثلا يمينا ويسارا انزعجت من أن رفض البرلمان مشاركة أميركا في عمل عسكري يهدد الأمن القومي البريطاني على المدى الطويل).

فبلاغة الرئيس الأميركي باراك أوباما أوقعته في مأزق باستخدامه تعبير «معاقبة نظام بشار الأسد على استخدام السلاح الكيماوي». فمواد القانون الدولي (المادتان 51 و52 أو المبدأ القانوني R2P المسؤولة عن حماية الناس لمجموعة الـ77 عام 2005) تبرر التدخل المباشر أو غير المباشر في شؤون أو أراضي دولة ذات سيادة لأسباب عدة ليس «عقاب» نظام بينها. والمأزق أن الرأي العام قادر وحده اليوم، بسبب التكنولوجيا على كشف تناقض مبررات أوباما مع القانون الدولي.

الرأي العام أصبح دوليا، فالصراع السوري الداخلي يمارس دوليا على مستويات دبلوماسية، وفي ساحة البروباغندا عبر الصحافة بوسائلها المتعددة، والعامل التكنولوجي أهمها. وسائل التواصل الاجتماعي (social media) على الإنترنت تلعب دورا تاريخيا غير مسبوق، كأسلحة أو ساحة صراع. فمعظم الأدلة التي ساقها وزير الخارجية الأميركي جون كيري لزعماء الكونغرس وللصحافة مصدرها الإنترنت وفيديوهات ملتقطة من سوريا على «يوتيوب».

التواصل الاجتماعي لعب الدور الأكبر في الهزيمة البرلمانية للزعيم البريطاني ديفيد كاميرون في تصويت مجلس العموم، وكانت كتساقط أحجار الدومينو، إذ أسرع أوباما بعرض أمر التدخل العسكري في سوريا، على الكونغرس (وكحسابات مكيافيللية بتحمل الكونغرس المسؤولية إذا تطور التدخل العسكري إلى مستنقع كفيتنام، أو حرب بلا نهاية كأفغانستان أو بنتائج عكس الأهداف المعلنة كالعراق)، والرئيس الفرنسي على برلمانه رغم أن النظام الجمهوري في الأخيرتين يبرر لرئيس الدولة – كالقائد الأعلى للقوات المسلحة دستوريا - إرسال القوات للخارج في ظروف طارئة بعكس النظام البرلماني الذي يتطلب تصويت ممثلي الأمة إلا في حالات تفويض التاج (Royal prerogative)؛ لأن الجالس على العرش في الملكية البرلمانية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة.

ولعل تصريحات رجال الكونغرس، بمجلسيه، للصحافة عن سبب اعتراضهم على مشروع لجنة العلاقات الخارجية بالتصويت على قرار يفوض الرئيس الصلاحية المحددة زمنيا بالتدخل في سوريا تلقي الضوء على عنصر تكنولوجيا الاتصالات بتوسيع المشاركة الديمقراطية خارج قبة البرلمان، وأيضا عولمة المشاركة الديمقراطية. مثلا في لقاء سيناتور أميركي يوم الخميس مع برنامج «اليوم» الصباحي في راديو الـ«بي بي سي 4»، والذي يحدد الأجندة السياسية اليومية، قال إن 96 في المائة من الناخبين في دائرته يرفضون التورط عسكريا في سوريا، والتي حسبها من الرسائل الإلكترونية، وزقزقات الـ«تويتر»، والـ«فيس بوك»، إلى جانب الوسائل التقليدية كالفاكس والخطابات ومكالمات التليفون، ولاحظ أنه وصف الفاكس والمكالمات بوسائل تقليدية.

عقب هزيمة مذكرتي الحكومة والمعارضة في مجلس العموم (راجع مقال الأسبوع الماضي) ذهب رئيس الوزراء كاميرون إلى أبعد مما طلبت المعارضة، معلنا التزامه بعدم المشاركة في عمل عسكري ضد سوريا أو حتى تقديم التسهيلات لأميركا من قواعد بريطانية.

استوعب كاميرون صدمة تغيير ديناميكية العلاقة بين زعامة الحزب والأعضاء. 30 من نواب حزبه صوتوا ضده، واختفى 31 آخرون من ردهات الصوت، أو اللوبي (التصويت في مجلس العموم ليس برفع الأيدي، بل بمرور النواب إما في لوبي (ردهة) «نعم»، وإما في لوبي «لا»).

الصدمة أفاقت كاميرون، لأن مديري الحزب أو حاملي السياط (whips) المسؤولين عن انضباط الحزب وتصرف أعضائه، لم يتمكنوا من تطويع إرادتهم للتصويت كالعادة. فالنواب أشهروا الـ«بلاك بيري» والـ«آي فون» في وجه حاملي السياط بعدد الرسائل وزقزقات الـ«تويتر» من الناخبين في الدائرة، وأغلبيتهم الساحقة تطلب من النواب التصويت بـ«لا» على التورط في الحرب. ولم يكن أمام مديري الحزب/ حاملي السياط إلا نقل الصورة للزعيم كاميرون بأن وضع النائب الولاء للحزب قبل الولاء لناخب الدائرة قد يكلفه المقعد في الانتخابات القادمة، وهذا بدوره، في نظام الدوائر البرلمانية، يعني فقدان الانتخابات المقبلة للمحافظين كحزب.

وقد ذكرت سابقا كيف أن زقزقات مراسل صحيفة محلية من منصة الصحافة في البرلمان ورد زقزقات قراء الصحيفة يدفع نائب الدائرة المعنية إلى تغيير اتجاه مناقشاته بـ180 درجة في دقائق خشية إغضاب الناخبين القادرين على فصله من وظيفته في الانتخابات القادمة. وهذا ما حدث بالضبط أثناء مناقشات جلسة مجلس العموم التاريخية يوم الخميس 29 - 8.

ولم تعد تفاصيل القانون القومي أو الدولي أو المعلومات العسكرية حكرا على الساسة، بل إن المواطن العادي، سواء كان ناخبا أو غير ناخب أثناء متابعته مناقشات البرلمان أو خطاب أوباما أو الرئيس الفرنسي، يمكنه، عبر الإنترنت، التأكد من صحة المعلومات التي طرحها السياسي كمبرر للتدخل من عدمه، والاطلاع على تقارير الأمم المتحدة وغيرها، ويرد بزقزقات أو تعليقات على الـ«فيس بوك» مع رابط لموقع المعلومة أو شريط الفيديو، وبدورها ترتد إلى صدر السياسي تأييدا أو رفضا.

لم نعد كصحافيين نحتكر تفسير ما يدور في البرلمان للقراء والمشاهدين، فقط نجتهد ونضيف من عندنا من لقاءاتنا الخاصة مع النواب والساسة.

وإذا كنا كسلطة رابعة، وجدنا أنفسنا نمسك بمنظار رصد الشعب للبرلمان لنقدم له كشف حساب بما يفعله نوابه، فإن الـ«تويتر» ومواقع التواصل الاجتماعي نفسها جعلت من الرأي العام مفتشا ومراقبا وضابطا لنا نحن الصحافيين، وهذا هو تعميم وعولمة الديمقراطية الحقيقية لعموم الشعوب (وليس لشعب واحد)، ليس فقط على الساسة، بل على السلطة الرابعة نفسها. أي أصبحت تكنولوجيا التواصل الاجتماعي، بلا قصد مخترعيها، أهم مؤسسة ديمقراطية معاصرة محليا وعالميا، بلا قوانين أو تشريعات تنظيم.