أخر الأخبار
ميقاتي وظل الحريري
ميقاتي وظل الحريري

 

غسان شربل
ذهبت الى السراي الكبير في 2005 فوجدت نجيب ميقاتي جالساً على كرسي رفيق الحريري. وكان الحريري ممدداً في ضريحه على بعد مئات الأمتار من السراي. كان البلد منقسماً بحدّة بين من تظاهروا وشكروا سورية، وبين من تظاهروا مطالبين بانسحاب قواتها من لبنان. كانت طائفة ميقاتي تقف في المعسكر الثاني وهو السبب الرئيس الذي جعل عمر كرامي يستقيل تحت وطأة الغضب الشعبي، خصوصاً في طائفته.
كان على ميقاتي ان يبلور نقطة يقف عليها بين المعسكرين المتنابذين في الداخل وبين ضريح الحريري من جهة وعلاقته الوطيدة بالقيادة السورية من جهة اخرى. ولم تعوزه البراعة. امتنع عن خوض الانتخابات النيابية وأشرف على إجرائها واستحق الثناء في الداخل والخارج. وأدرك بلا شك ان طائفته اختارت زعيمها الجديد واسمه سعد الحريري. في 2005 كان جلوس ميقاتي في السراي الكبير يستند الى تفويض طبيعي وكامل، وتيسر له ان يغادر برصيد يبقيه لاعباً في طائفته مع معرفته الكاملة باسم زعيمها الجديد.
ذهبت الى السراي الكبير في 2011 فوجدت ميقاتي جالساً على كرسي سعد الحريري. سألته عن مجازفته، فأجاب انه شعر ان البلاد مهددة بالانزلاق نحو المجهول وأن واجبه يمنعه من التهرب من المسؤوليات مهما كانت صعبة. خالجني شعور ان الرجل جازف كثيراً. سورية التي لا يستطيع الاستقالة من علاقته معها ضربها الربيع مجبولاً بالدم وأوقعها في عزلة عربية وإسلامية غير مسبوقة. وعلى الصعيد الداخلي اعتبرت غالبية الطائفة السنية ان إقصاء سعد الحريري يمثل جرحاً جديداً يضاف الى جرحي اغتيال والده وتنفيذ 7 ايار (مايو) في شوارع بيروت. يضاف الى ذلك ان التراجع في العلاقات السنّية - الشيعية، والذي بدأ غداة اغتيال الحريري، تفاقم الى درجة مطالبة الاكثرية السنية بنزع سلاح «حزب الله». ثم إن التفويض النيابي نفسه بدا ناقصاً هذه المرة، اذ إن وسائل غير ديموقراطية وغير رقيقة استخدمت في «اقناع» وليد جنبلاط وقلب الاكثرية النيابية.
حاول ميقاتي التعايش مع هول المشاهد الوافدة من سورية. رفع لافتة النأي بالنفس وجلس تحتها. راح يسبح محاولاً الهروب من الأمواج العالية. وراح يمشي محاولاً تفادي الألغام. هنا اشارة. وهناك نصف عبارة. هنا ثلث استدارة. وهناك ربع تلميح. عين على سورية وأخرى على الطائفة. جاهر سعد الحريري بتأييده المعارضة السورية. خاف ميقاتي أن تنأى طائفته بنفسها عنه. مرر تمويل المحكمة الدولية وحافظ على الرموز الامنية السنّية المستهدفة. لكن اللعبة بدت اكثر تعقيداً. أُصيب ميقاتي بـ «نيران صديقة». قصة سماحة - مملوك بالصوت والصورة. ثم رحلة الطائرة «ايوب» والحديث المتزايد عن دعم «حزب الله» الميداني للنظام السوري. الجنرال عون لم يعتبر نفسه ملزماً بمساعدة ميقاتي ولم يخفف اندفاعه ضد طائفته. هذا فضلاً عن ظل الحريري في السراي وعاصمة الشمال معاً. وعلى رغم كل ذلك، استفاد ميقاتي من الاستقرار وغياب الاغتيالات فحقق اختراقات دولية تعذرت عليه خليجياً. مع اغتيال العميد وسام الحسن أُصيبت براعة ميقاتي اصابة مباشرة.
في الاسبوع الاخير من تموز (يوليو) الماضي، ذهبت لزيارة الرئيس ميقاتي في منزله في لندن. لم يكن الغرض إجراء حديث صحافي، لكنني فوجئت به يقول: «ان الوضع في لبنان يستلزم حكومة استثنائية ولن اكون عقبة أمام قيامها». وكان لا بد من النشر ففعلت. شعرت ان ميقاتي يتخوف من الايام المقبلة وأنه قد يكون تعب من خصومه وحلفائه معاً او يريد توجيه رسالة الى من يعنيهم الامر وطال عتبهم.
قرأت البارحة تصريحات ميقاتي عن ان الاستقالة غير واردة على الاطلاق. واضح انه لا يريد رحيلاً شبيهاً برحيل عمر كرامي. يراودني شعور بأن تدافع الاحداث بات يفوق قدرته على الاحتمال. وأنه يريد ترتيب خروجه في توقيت ملائم له. ففي لبنان ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم وخسر طائفته. ومن يدري، فقد تظهر الايام ان من عاقبوا الحريري بإخراجه من السراي الكبير ونفيه، أسدوا اليه خدمة، وأن من كافأوا ميقاتي وأدخلوه السراي اوقعوه في امتحان مرير. لقد التصق قدر ميقاتي بقدر آل الحريري. كلما دخل السراي يجد ظل الحريري مقيماً فيها.


غسان شربل
ذهبت الى السراي الكبير في 2005 فوجدت نجيب ميقاتي جالساً على كرسي رفيق الحريري. وكان الحريري ممدداً في ضريحه على بعد مئات الأمتار من السراي. كان البلد منقسماً بحدّة بين من تظاهروا وشكروا سورية، وبين من تظاهروا مطالبين بانسحاب قواتها من لبنان. كانت طائفة ميقاتي تقف في المعسكر الثاني وهو السبب الرئيس الذي جعل عمر كرامي يستقيل تحت وطأة الغضب الشعبي، خصوصاً في طائفته.
كان على ميقاتي ان يبلور نقطة يقف عليها بين المعسكرين المتنابذين في الداخل وبين ضريح الحريري من جهة وعلاقته الوطيدة بالقيادة السورية من جهة اخرى. ولم تعوزه البراعة. امتنع عن خوض الانتخابات النيابية وأشرف على إجرائها واستحق الثناء في الداخل والخارج. وأدرك بلا شك ان طائفته اختارت زعيمها الجديد واسمه سعد الحريري. في 2005 كان جلوس ميقاتي في السراي الكبير يستند الى تفويض طبيعي وكامل، وتيسر له ان يغادر برصيد يبقيه لاعباً في طائفته مع معرفته الكاملة باسم زعيمها الجديد.
ذهبت الى السراي الكبير في 2011 فوجدت ميقاتي جالساً على كرسي سعد الحريري. سألته عن مجازفته، فأجاب انه شعر ان البلاد مهددة بالانزلاق نحو المجهول وأن واجبه يمنعه من التهرب من المسؤوليات مهما كانت صعبة. خالجني شعور ان الرجل جازف كثيراً. سورية التي لا يستطيع الاستقالة من علاقته معها ضربها الربيع مجبولاً بالدم وأوقعها في عزلة عربية وإسلامية غير مسبوقة. وعلى الصعيد الداخلي اعتبرت غالبية الطائفة السنية ان إقصاء سعد الحريري يمثل جرحاً جديداً يضاف الى جرحي اغتيال والده وتنفيذ 7 ايار (مايو) في شوارع بيروت. يضاف الى ذلك ان التراجع في العلاقات السنّية - الشيعية، والذي بدأ غداة اغتيال الحريري، تفاقم الى درجة مطالبة الاكثرية السنية بنزع سلاح «حزب الله». ثم إن التفويض النيابي نفسه بدا ناقصاً هذه المرة، اذ إن وسائل غير ديموقراطية وغير رقيقة استخدمت في «اقناع» وليد جنبلاط وقلب الاكثرية النيابية.
حاول ميقاتي التعايش مع هول المشاهد الوافدة من سورية. رفع لافتة النأي بالنفس وجلس تحتها. راح يسبح محاولاً الهروب من الأمواج العالية. وراح يمشي محاولاً تفادي الألغام. هنا اشارة. وهناك نصف عبارة. هنا ثلث استدارة. وهناك ربع تلميح. عين على سورية وأخرى على الطائفة. جاهر سعد الحريري بتأييده المعارضة السورية. خاف ميقاتي أن تنأى طائفته بنفسها عنه. مرر تمويل المحكمة الدولية وحافظ على الرموز الامنية السنّية المستهدفة. لكن اللعبة بدت اكثر تعقيداً. أُصيب ميقاتي بـ «نيران صديقة». قصة سماحة - مملوك بالصوت والصورة. ثم رحلة الطائرة «ايوب» والحديث المتزايد عن دعم «حزب الله» الميداني للنظام السوري. الجنرال عون لم يعتبر نفسه ملزماً بمساعدة ميقاتي ولم يخفف اندفاعه ضد طائفته. هذا فضلاً عن ظل الحريري في السراي وعاصمة الشمال معاً. وعلى رغم كل ذلك، استفاد ميقاتي من الاستقرار وغياب الاغتيالات فحقق اختراقات دولية تعذرت عليه خليجياً. مع اغتيال العميد وسام الحسن أُصيبت براعة ميقاتي اصابة مباشرة.
في الاسبوع الاخير من تموز (يوليو) الماضي، ذهبت لزيارة الرئيس ميقاتي في منزله في لندن. لم يكن الغرض إجراء حديث صحافي، لكنني فوجئت به يقول: «ان الوضع في لبنان يستلزم حكومة استثنائية ولن اكون عقبة أمام قيامها». وكان لا بد من النشر ففعلت. شعرت ان ميقاتي يتخوف من الايام المقبلة وأنه قد يكون تعب من خصومه وحلفائه معاً او يريد توجيه رسالة الى من يعنيهم الامر وطال عتبهم.
قرأت البارحة تصريحات ميقاتي عن ان الاستقالة غير واردة على الاطلاق. واضح انه لا يريد رحيلاً شبيهاً برحيل عمر كرامي. يراودني شعور بأن تدافع الاحداث بات يفوق قدرته على الاحتمال. وأنه يريد ترتيب خروجه في توقيت ملائم له. ففي لبنان ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم وخسر طائفته. ومن يدري، فقد تظهر الايام ان من عاقبوا الحريري بإخراجه من السراي الكبير ونفيه، أسدوا اليه خدمة، وأن من كافأوا ميقاتي وأدخلوه السراي اوقعوه في امتحان مرير. لقد التصق قدر ميقاتي بقدر آل الحريري. كلما دخل السراي يجد ظل الحريري مقيماً فيها.