أخر الأخبار
ليتك ولدت هنا
ليتك ولدت هنا

غسان شربل

 

التاريخ سجل ارتكابات وفندق مرتكبين. يدخله النزلاء مع ضحاياهم. إهرامات من العظام. مدن متفحمة. بحر من الأيتام. حروب كبرى. ومنعطفات خطرة. ومسيرات مبللة بالدم.

ارتبك مدير الفندق بالوافد الجديد. راح يتفقد المكان. هذه غرفة ادولف هتلر. وهذه شقة جوزيف ستالين. وسرير ماوتسي تونغ. وزاوية بول بوت. هذا المكان غير ملائم.

تفقد الجناح الأفريقي. الإمبراطور بوكاسا في زنزانته مع صورة نابوليون. وموبوتو سيسي سيكو يبحث عن نادل يرميه للتماسيح. وعيدي أمين يواصل تهريجاته الدموية. وهذا المكان غير ملائم.

لهذا الجناح نكهة اخرى. غاندي جالساً على حصيرته. ومارتن لوثر كينغ منفرداً بحلمه. وإبراهام لينكولن يتابع الـ «سي ان ان». وسيمون بوليفار يتمشى مع تشي غيفارا. هذا مكان لائق لكن الوافد يستحق اكثر.

يختتم مدير الفندق جولته ويصدر قراره. وحدها شرفة التاريخ تليق بنلسون مانديلا.

لم يحدث ان انحنى العالم لرجل كما فعل لدى شيوع نبأ وفاته. كأن كلمة العملاق صنعت لأجله واستخدمت خطأ في وصف غيره. تذكر الناس قصة القامات. في حضرة هالته يبدو سيد البيت الأبيض ولداً مذهولاً أمام عراف. ويبدو قيصر الكرملين ضابطاً ارسلته الـ «كي جي بي» في مهمة سرية. سيد الإليزيه يظهر عارياً من الأوسمة. وحارس 10 داونينغ ستريت رجل عادي لزمن عادي.

لا يرتكب العالم مثل هذا الذنب الناصع الا نادراً. رفع الكوكب قبعته اجلالاً. كأنه شعر بخسارته. لا جيوشه جرارة ولا أساطيله تعتقل البحار. لكنه اقوى وأعنف. رجل صنع قصته فصنع له الشعب أسطورته. رفع رأسه ضد التمييز العنصري وأبحر مع قدره. توالت السنوات وراء القضبان وظل السجين مقيماً في عنفوانه وجبهته. عرضوا عليه الحرية مشروطة بالتنكر لحلمه فرد بابتسامة احتقار. ومن داخل الزنزانة لمعت قبضته في ضمير شعبه وضمير العالم.

مفاتيح القصة ليست سرية. كرامة الإنسان. مقاتلة الظلم بلا هوادة. رفض امتهان الحقوق والكرامات. الحق في العيش الكريم وتساوي الفرص. الديموقراطية وحقوق الإنسان.

في السجن الذي امتد سبعة وعشرين عاماً اتخذ قراراً سيغير مصير بلاده. تعلم لغة الأقلية البيضاء المتسلطة. غاص في ثقافتها وشعرها وتراثها. مكنه ذلك من ملامسة مخاوفها وهواجسها. وحين خرج من السجن كان اتخذ قراره. نعيش معاً في ظل الديموقراطية. المصالحة لا الثأر. لا مكان للهيمنة البيضاء. ولا مكان لهيمنة مضادة. ولم يكن القرار سهلاً. ففي ذاكرة السود عقود من القهر كان ممنوعاً عليهم فيها الاقتراب من قرى الأسياد ومدارسهم ونواديهم.

ساعة خروجه من السجن في 1990 خاطب منتظريه قائلاً: «اقف هنا أمامكم لا كرسول بل كخادم ذليل أمامكم أمام الشعب. إن تضحياتكم الدؤوب والتاريخية هي التي جعلت من الممكن ان اقف هنا اليوم. ولهذا اضع ما تبقى من سنوات عمري بين ايديكم». وفي 1993 شاهده العالم يتقاسم نوبل للسلام مع عدوه الذي تحول شريكاً وهو آخر رؤساء نظام التمييز فريدريك دو كليرك.

في السنة التالية وفي اول خطاب بعد فوزه كأول رئيس اسود لجنوب أفريقيا توجه إلى مواطنيه قائلاً: «حان الوقت لمداواة الجراح. حان وقت تخطي الهوة التي فرقت بيننا. حان وقت البناء». قاد الرجل عملية انتقال سلمي للسلطة. فكك النظام العنصري. وجنب بلاده حرباً اهلية طاحنة.

أدرك مانديلا ان عليك ان تلتفت الى الآخر الذي لا يشبهك في الوطن. ان تفهمه وتلتقي معه في الدولة ومؤسساتها. وأن تبنى المصالحة على العدالة والتسامح والتطلع الى الازدهار والمستقبل المشترك. وبعد خمسة اعوام غادر موقع القرار مكتفياً بتوظيف هالته في خدمة وطنه وشعبه.

قصة مانديلا قصة العاشق. عاشق للحرية والكرامة. عاشق للحياة والعدالة والتسامح. وعاشق أيضاً للموسيقى والنساء والثياب الجميلة والقمصان المزركشة والملاكمة والرقص. عاشق لشعبه وللإنسانية.

يغيب مانديلا فيما تغرق بلداننا في الظلام وتسافر عواصمنا الى الكهوف. لا نعترف بالآخر. لا نقبله الا عبداً او جثة. نريد شطب ملامحه ومحو تراثه واقتلاع جذوره. نسينا مفردات كرامة الإنسان وحقوق الفرد واحترام الاختلاف والاعتراف بالآخر. اعرف ان كثيرين استقبلوا نبأ وفاته بالقول ليتك ولدت هنا. يحتل مانديلا شرفة التاريخ ونندفع نحن في اتجاه الهاوية.