عمان - الكاشف نيوز
رغم ما قيّض لها من إسقاط الحق الشخصي من عائلتها ولاحقا صدور العفو العام في قضية أدينت فيها بقتل والدها وهي في عمر 18 عاما.. يساور العشرينية (م) قلق يومي منذ خروجها من أبواب مركز إصلاح وتأهيل الجويدة للنساء في 12 شباط (فبراير) الماضي لتنال حرية لم تحلم بها.
حالة القلق الممزوجة ببعض التفاؤل بالمضي قدما بحياة خالية من المنغصات، سبقها قضاء جزء من الحكم الصادر بها وهو الحبس لمدة 15 عاما خفف إلى 10 أعوام، أمضت منها أكثر من 4 أعوام، لم تتلق خلالها برنامجا فعليا لإعادة التأهيل أو التعليم الأكاديمي أو المهني، تستعد به للحظة صدمة ما بعد الإفراج، أو حتى تأهيلا لحياة سجن طويلة المدى، سوى النشاطات التقليدية من قراءة لما تيسر من كتب أو تلقي دروس دينية وعظات، وفي أحيان محدودة استخدام اجهزة الحاسوب وتلقي دروس متواضعة في الانجليزية.
حال “م” التي ارتكبت الجريمة وهي في سن الأحداث، وتعيش في إحدى مناطق العاصمة، يشابه حال أخريات كثر ممن أدانهن القضاء في قضايا جرمية، إلا أن الحظ كان حليفها بعد أن أسقطت العائلة الحق الشخصي، وأتبعه قرار العفو العام بإفراج لم يكن بالحسبان.
(م) المولودة العام 1996 شهدت سابقًا أعواما عصيبة بين جدران مهجع ضم معها نحو 13 نزيلة محكومات بقضايا قتل بحسبها، ورغم أنها ترفض اليوم العودة بأي شكل من الأشكال لزيارة مركز الإصلاح، إلا أنها تحرص على الاتصال بزميلتين لها أفرج عنهما في ظروف مشابهة، إحداهما تعيش اليوم مع زوجها بينما تعيش الأخرى مع والدتها.
لكنها اليوم تحاول “تجاوز محنتها بالاندماج في المجتمع حيث تكمل تعليمها المدرسي الخاص في الصف العاشر، بعد تجربة عنف أسري وحرمان في منزل والدها من التعليم”، على ما أضافت (م).
وبحسب قواعد نيسلون منديلا، لا بد من إجراء تصنيف للنزلاء عبر تعبئة نموذج مخصص لذلك لتقييم درجة الخطورة، وعن تلك الإجراءات تقول (م) “هناك قضايا أصبحت دون تصنيف ونحن كقضايا قتل كنا مصنفات”، مشيرة إلى أن “قضايا المخدرات والتوقيف الإداري وغيرها كانت دون تصنيف في الأيام الأخيرة التي قضتها في السجن” في حين يعتبر حل النزاعات بين النزلاء عموما، “واحدا من أهم الإجراءات التي لا بد أن تطبقها إدارات السجون، ويشوبها ضعف في التنفيذ والمتابعة”.
وعن طبيعة المشاكل التي كانت تقع بين السجينات تقول، “مثلا بنت بتحكي للتانية أنت هيك وأنت هيك بعايروا بعض بالقضايا.. أو تشليح إحدى النزيلات أموال غيرها أو مقتنياتها أو فرض خاوات”، مشيرة الى أنه “عندما تعلم إدارة المركز بذلك تتخذ إجراء بنقل البنت الى غرفة ثانية وإذا أعادت نفس المشكلة تعاقب بالحبس الانفرادي لكن لا شيء يضمن عدم تكرار المشكلة في مهاجع الإداري”.
وتعلن مراكز الإصلاح والتأهيل عن إخضاع النزلاء لدورات تأهيلية متخصصة أو جلسات تثقيف وإرشاد نفسي، أشارت (م) إلى أنها كانت تعقد “بالصدف”، لكنها أكدت خضوعها لدورات حاسوب ولغة انجليزية.
وفيما يتعلق بتلقي السجينات المتوقع الافراج عنهن دورات أو برامج تهيئة لما يعرف بصدمة الخروج قالت، “لم تكن منظمة.. مكثت في السجن 4 سنوات حصلت خلالها على دورة انجليزي ودورة حاسوب. أما السجينات المتهمات بقضايا مخدرات يخضعن لدورات توعية، أما برامج التوعية والإرشاد النفسي فكانت تأتي فجأة بغض النظر عمن يحضر ومن لا يحضر”.
(م) تلازم المنزل أطول فترة ممكنة لتتجنب الاختلاط بالجيران أو مصادفة معارف سابقين، بعد أن هجرت عائلتها الحي الذي شهد الجريمة إلى حي آخر، بحثا عن حياة جديدة، لكنها لم تتوقف عن نسج حلم حياتها باستكمال تعليمها، على أمل أن تجد عملا مناسبا يعيلها وأسرتها حيث عملت بعد الافراج عنها أسابيع قليلة مرافقة لطلبة مدارس إلا أن عدم الالتزام بأجرتها دفعها لترك العمل، وتسعى لإنهاء الدراسة الثانوية علّها تفتح لها آفاقا جديدة.
وتنص المادة 4 من قانون مراكز الاصلاح والتأهيل على أنه “تناط بالمراكز مهمة الاحتفاظ بالنزلاء وتأمين الرعاية اللازمة لهم، وتنفيذ برامج إصلاحية تساعدهم على العودة إلى المجتمع وأخرى تأهيلية تمكنهم من العيش الكريم”، لكن أوضاع مراكز الإصلاح والتأهيل في المملكة، تكشف عن وجود اكتظاظ وصلت نسبته خلال العام الجاري إلى 152 % وفقا لبيانات كشف عنها مدير إدارة مراكز الإصلاح والتأهيل العميد أيمن العوايشة على هامش جولة صحفية لمركز إصلاح وتأهيل ارميمين في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، إذ بلغ عدد نزلاء المراكز حتى تاريخه 20310 نزلاء ونزيلات، 39 % منهم موقوفون.
وبحسب العوايشة، فقد أتاحت إدارة مراكز الاصلاح للنزلاء تقديم شكاوى “شفوية وخطية” واستحداث صناديق خاصة مغلقة، تفتح من قبل مكتب الشفافية وحقوق الانسان، مشيرا الى أنه وحسب إحصاءات رصد الإدارة، “تم تشكيل 8565 لجنة في العام 2019 للتحقيق في قضايا وشكاوى داخلية في مراكز الاصلاح، من بينها 1790 حالة ضبطت فيها حيازة مواد ممنوعة بين سجناء و296 إساءة تصرف، و 562 إيذاء نفس، مقابل 5676 قضايا متنوعة، حيث أودعت 404 قضايا إلى القضاء”.
ولا يخفي العوايشة، أن إشكالية الاكتظاظ التي تعاني منها مراكز الإصلاح، هي التحدي الأكبر أمام برنامج تحسين البيئة السجنية، حيث أطلقت مديرية الأمن العام في 18 تموز (يوليو) الماضي بالتعاون مع المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي، “الخطة الوطنية لدعم قدرات مراكز الإصلاح والتأهيل وبالتنسيق مع مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة”.
وقال العوايشة في تصريحات خاصة لـ “الغد” حول آخر مستجدات متابعة إنفاذ الخطة، إنها “خطة طويلة المدى وترتكز بالأساس إلى تخفيف” الآثار المترتبة على مشكلة الاكتظاظ”، مشيرا إلى أن الاكتظاظ بحد ذاته من شأنه أن “يعيق تنفيذ أي خطة”.
وأضاف، “نعمل على الاستثمار بالنزيل داخل مراكز الاصلاح ونسير بخطوات متتالية لكن الاكتظاظ يزداد طرديا شهرا بعد شهر بمعدل تقريبي 18 %، وهو ما يشكل تحديا لنا نحاول التغلب عليه”، إلا أنه يؤكد أن “تصنيفنا يرتقي للأفضل لدى المنظمات الدولية المعنية بمراكز الإصلاح والتأهيل”.
وعن المؤشرات الاخرى التي اعتبرها العوايشة دلالة على تطوّر عمل إدارة المراكز، أن “الأمراض السارية التي ترصد في كل مراكز وسجون العالم غير سارية في مراكزنا وهذا أحد المؤشرات الايجابية، ولا أقول أننا وصلنا إلى الافضل بل نسعى إليه”.
وأوضح أن “إدارة مراكز إصلاح ليس من اختصاصها تخفيف الاكتظاظ لأننا جهة إنفاذ قانون لكننا نحاول قدر المستطاع التخفيف من الآثار السلبية وتحسين البيئة السجنية”.
لكن حقوقيين يرون أن برامج إعادة التأهيل التي تقر الأجهزة الرسمية بضعفها، “لا بد أن يدرج معها برامج للرعاية اللاحقة وهي التجربة غير المطبقة في المملكة، فيما سجلت تجارب في دول عربية نجاحات ملموسة في هذا الإطار”.
وتقول المحامية والناشطة الحقوقية، إيمان بني سعيد، إن هناك حاجة ملحة لـ “إعداد برامج لإعادة تأهيل السجناء خاصة في الجرائم المصنفة بالخطرة، كالقتل والشروع بالقتل وهتك العرض والاغتصاب”، مبينة أن هناك حالات ثبتت براءة المتهمين فيها خضعت خلال سير القضايا للتوقيف.
وشددت بني سعيد على أن من شأن الرعاية اللاحقة في هذه الحالات، أن “تخفف من نسبة العودة للجريمة، التي أعلنت مديرية الأمن العام، العام الجاري أنها وصلت إلى 39.8 %”، لافتة إلى أن “مواطنا اتهم بقضية هتك عرض وحصل على حكم بالبراءة بعد توقيف دام نحو 7 أشهر، التقته بعد انتهاء القضية يعمل في أحد كراجات تصليح السيارات مضطرا رغم حاجته لاستكمال دراسته، لأنه لم ينجح في الاندماج في مجتمعه”.
وتعتقد بني سعيد، أن من بين الحلول التي قد تكون فعالة، العقوبات البديلة ومأسسة برامج الرعاية اللاحقة، حيث “أظهر تقرير المركز الوطني لحقوق الانسان في تقريره الخامس عشر مؤخرا، أن تطبيقها كان ضعيفا للغاية منذ إقرارها”.
وقالت، “العقوبات المجتمعية جديدة نسبيا وتم النص عليها في تعديلات قانون العقوبات وتستبدل التوقيف في مركز الاصلاح والتأهيل بعقوبة بديلة ضمن قيود محددة”، موضحة أن هذا البديل ينطبق على الجرائم التي لا تتخطى عقوبتها الحبس لمدة عام، وفي القضايا التي يمكن وقف تنفيذها”.
ويعتبر إخضاع العاملين في مراكز الإصلاح والتأهيل أنفسهم لبرامج إرشاد نفسي، من أهم متطلبات تحسين البيئة السجنية وفقا لبني سعيد، التي قالت إن “برامج الرعاية اللاحقة يجب مأسستها وأن تكون جزءا لا يتجزأ من خدمات مراكز الاصلاح والتأهيل”، مبينة أن الشراكة مع منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص، مخرج مهم لتطبيق هذه البرامج، وأن يتخطى دور مؤسسات المجتمع المدني “المساعدة القانونية” التي تقدمها كخدمات مجانية.
كما تعتبر عدم المحكومية عائقا كبيرا أمام المفرج عنهم أو ممن قضوا محكوميتهم في مراكز الاصلاح والتأهيل، ويظل هاجسا أبديا يعيق تقدمهم وإعادة اندماجهم في المجتمع، وكذلك قانون منع الجرائم الذي يتيح للحاكم الإداري إعادة التوقيف أو فرض الإقامة الجبرية.
وتتساءل بني سعيد عن “الفائدة من عدم المحكومية عندما يكتب عليها ليس لغايات العمل بوصفها إشكاليات قانونية، وكذلك الإقامة الجبرية التي قد تقيد الراغب في عمل ما يحتاج إلى انتقاله لمسافات ولا يتطلب عمله عدم محكومية”.
ومن أهم توصيات المركز الوطني لحقوق الانسان إلغاء عقوبة الحبس الانفرادي المنصوص عليها في المادة 38 من قانون مراكز الإصلاح والتأهيل، وإلغاء قانون منع الجرائم، وحصر قرارات التوقيف بالقضاء.
وبمراجعة “الغد” للخطة الوطنية لدعم قدرات مراكز الاصلاح والتأهيل، فقد أقرت الخطة في الصفحة 15، غياب آليات وقائية مكتوبة لفض النزاعات داخل مراكز الاصلاح قبل تطورها إلى مخالفات مسلكية تستوجب العقوبة.
وكشفت عن أن 3 % من النزلاء في مراكز الاصلاح هن من النساء، وهناك مليون ملف ورقي بحاجة إلى أرشيف، فيما تسعى مديرية الأمن العام إلى مأسسة قاعدة بيانات الكترونية لها.
ولا يعتبر عدم خضوع الشابة “م” إلى تأهيل أكاديمي أو مهني حالة استثنائية، حيث كشفت الخطة عن تلقي 5 % فقط من نزلاء مراكز الاصلاح والتأهيل تعليما أكاديميا ومهنيا، خلال الأعوام الأخيرة.