أخر الأخبار
كيس الاسمنت
كيس الاسمنت

لم تكن ظروف غزة الاقتصادية و المعيشية و النفسية اسوء مما هي عليه اليوم ، على الرغم انها لم تكن يوما جيدة، على الاقل  بالمقارنه مع اي محافظة اخرى من محافظات الوطن الاخرى. في الشهور الاخيرة ازدادت الاوضاع سوء لسببين رئيسيين، الاول،  الاغلاق شبه المحكم للانفاق التي تربط  بين غزة و مصر حيث كانت تساعد في تخفيف المعاناة عن قطاعات واسعه من الناس و تشكل مصدر رزق لاكثر من ثلاثين الف عامل عدى عن توفيرها لبدائل لما يحتاجه القطاع من سلع تمنع اسرائيل ادخالها و مازالت لهذا السبب او ذاك وباسعار معقولة بالمقارنه مع البضائع الاسرائيلية ، و الاهم من ذلك كانت تشكل مصدر دخل اساسي لحكومة حماس في غزة ساعدها في تسديد فاتورة الرواتب لموظفيها و الذي يزيد عددهم عن ثلاثين الف موظف عدا عن رواتب المتفرغين من الجهاز العسكري. اغلاق الانفاق ساهم بشكل كبير على ما يبدو في تعميق الضائقة المالية مما جعلها غير قادرة على توفير رواتب كاملة لموظفيها منذ حوالي الستة اشهر الاخيرة.

السبب الثاني الذي عمق من جرح غزة النازف هو استمرار اسرائيل في منع ادخال المواد الاساسية للبناء ، خاصة الاسمنت و الحديد و الحصمة سوى بكميات محدودة جدا و ذلك منذ ان اعلنت عن اكتشاف النفق الاستراتيجي و الذي يمتد طوله لاكثر من كيلو متر ليصل الى ما بعد الجدار الحدودي مما اعتبرته اسرائيل تهديدا مباشرا لامنها. منذ ذلك التاريخ ، و بالتحديد منذ اكتوبر الماضي يدخل الاسمنت و مواد البناء الاساسية الاخرى بكميات محدودة جدا جدا و فقط للمشاريع التي تنفذها وكالة الغوث بعد ان تعهدت للاحتلال بأن هذة المواد لن تصل الى اي جهة من شأنها ان تستخدمها في بناء الانفاق .

عدم ادخال كيس الاسمنت ادى بطبيعة الحال الى شلل كامل لحركة الاعمار في غزة مما ترك اثره السلبي المباشر على  الدورة الاقتصادية و اصاب بالشلل قطاعات كثيرة و متعددة مرتبطه به ادخلت على الاقل ما يزيد عن خمسين الف عامل و مهني وصاحب مصلحة الى دائرة البطاله. عدم ادخال كيس الاسمنت ادى اولا للتوقف شبه التام لمصانع الباطون حيث حولتها الى اكوام من الحديد هي و كل ما يتعلق بها من شاحنات نقل و مضخات و خلاطات و القت في احضان البطالة كل الايدي العاملة التي كانت تشغلها.

عدم ادخال كيس الاسمنت اجلس عشرات الالاف من عمال البناء و القصارة و البلاط و البويه و السباكه و الكهرباء و الحدادة و  الالمونيوم و الستائر و الديكور و الجبس ….الخ ، القاهم جميعا في احضان البطالة دون اي مصدر رزق بديل.

عدم ادخال كيس الاسمنت اصاب بالشلل كل المحلات و المتاجر التي لها علاقة بالبناء و ملحقاته حيث لم يعد هناك  حاجة لشراء مستلزمات البناء مما اصاب بالشلل كل المحلات التجارية  التي تبيع مواد بناء من محلات بلاط و المونيوم و حديد و كهرباء … الخ ، مما جعل  اصحاب هذه المحلات يحلمون ليل نهار في كيس الاسمنت. باختصار شديد ووفقا للتقدير كل كيس اسمنت يعمل على تشغيل خمسين شخص على الاقل، و بامكان كل انسان ان يحسبها لوحده و ليس هناك حاجة لكي يكون خبيرا في الاقتصاد لكي يصل الى هذا الاستنتاج.

من يعرف غزة و شاهدها قبل ستة شهور و يشاهدها اليوم يشعر بالفارق دون عناء، يشعر ان غزة تتنفس هذه الايام بصعوبه شديدة . على الرغم من الاكتضاض السكاني الذي هو اعلى نسبة في العالم من حيث المساحة المخصصة للفرد، و على الرغم من عدد المركبات الكبير قياسا مع المساحه الصغيرة للقطاع الا ان حركة المركبات و الدراجات النارية و التكاتك التي كان يهيئ للناس ان عددها اكثر من عدد الناس انفسهم ، اليوم الوضع اختلف بدرجة كبيره حيث التوقف التام لادخال السولار و البنزين المصري الذي كان سعره اقل من ثلث سعر المحروقات الاسرائيلية اضافة الى توقف حركة البناء و عدم الحصول على راتب كامل اجبر الكثيرين على توقف مركباتهم و هناك من اضطر لبيعها و بسعر ارخص بكثير مما اشتراها ، اما لانه لم يعد قادر على توفير الوقود لها او لانه احتاج لثمنها لكي يسد رمق ابناءه او ربما ليدفع رسوم الجامعه لاحدهم. هذا اذا كان ابنه او بنته محظوظين حيث هناك الكثير مما استسلم و اضطر الي ان يُجلس ابنه في البيت لانه لم يعد قادرا على تسديد الرسوم الجامعيه له ، الحال اكثر صعوبه عندما يصادف ان هناك ثلاث او اربع اخوه طلاب جامعات لرب اسره لا عمل له، وهناك الكثير و الكثير جدا من هذه الحالات في غزة.

المعاناة التي تعانيها غزة من كيس الاسمنت تضاف الى قائمة المعانيات الطويلة التي يعاني منها القطاع سواء بسبب الاغلاق شبه الدائم لمعبر رفح و الحصار الاسرائيلي البحري و البري و الجوي الذي يرافقه اجتياحات و قصف بين الحين و الاخر اعتاد عليه الناس بعد ان اصبح جزء اساسي من المشهد.

 

الذريعه الاسرائيلية التي يتذرع بها الاحتلال و التي عبر عنها بصراحه ووضوح شديدين انهم ليسوا على استعداد لكي يدخلوا الاسمنت لغزة لكي تستخدمه الفصائل، خاصة حركة حماس المسيطرة على قطاع غزة ، في بناء الانفاق لكي يتم استخدامها في بناء النفاق التي سيتم استخدامها لتنفيذ عمليات عسكرية بما في ذلك اختطاف جنود اسرائيليين على غرار شاليط.

ليس هناك شك وفي ظل الظروف التي تعيشها غزة و يعيشها االشعب الفلسطيني بشكل عام و في ظل التهديدات الاسرائيلية المتواصله ان تسعى القوى الفلسطينية من تعزيز صمود الناس و تعزيز قدراتهم و امكانياتهم في الدفاع عن غزة و اهلها.

هذا الامر من المفترض ان لا يخضع للجدل او النقاش على اعتباره حق مشروع. هذا لا يمنع من  اعادة تحديد الاولويات و اعادة ترتيبها من جديد، خاصة ان هناك ظروف تغيرت نتيجة اغلاق الانفاق التي وفرت البديل ليس فقط الكافي بل و الافضل  لكل البضائع و السلع التي تمنعها اسرائيل، لذلك لم يعاني الناس كثيرا من النقص في مواد البناء لان جميعها كانت تدخل عبر الانفاق و بالتالي لم تؤثر على مجريات الحياة في القطاع.

السؤال الذي يطرح نفسه هو اذا كانت اسرائيل تشترط لاعادة ادخال مواد البناء ، وخاصة الاسمنت ، تريد تعهد من جهات مسؤوله قادرة على الايفاء ما تتعهد به  و في ظل عدم توفر البدائل ، هل من الحكمة ان يتم اعطاء هذا التعهد من اجل اعادة تفعيل العجلة الاقصادية  و بتالي التخفيف من معاناة الناس؟ اليس من الحكمة ربما حشر اسرائيل في الزاوية و احراجها و اغلاق الطريق امامها على طريق تفكيك حلقات الحصار المحكمة جدا هذه الايام؟

لا يقول لي احد ان هذا قد يشكل خنوع للابتزاز الاسرائيلي، لان من يريد ان يزاوج بين الحكم و المقاومه و يعتبر ان هذا الامر ممكن ، خاصة في الحالة الفلسطينية الخاصة و المعقدة لن يجد مشكلة في تبرير ذلك و النماذج كثيره وواضحه و لا داعي للتذكير بها. الاعتبار الاساسي ان كل خطوة او قرار او عمل يقاس بدى مساهمته في تعزيز صمود الانسان علي ارضه و بقدر مساهمته في الحفاظ على الكرامه الانسانية للفرد ، و ليس هناك اقسى و اكثر مساس بالكرامه الانسانية من ان يجلس الانسان عاجزا في بيته غير قادر علي توفير الطعام لابناءه. الا اذا كان هناك لاصحاب القرار و العالمين ببواطن الامور رأي آخر.