القاهرة - الكاشف نيوز
تكثر الجرائم التي تُنسب إلى الثأر في صعيد مصر، وهي جرائم تغرق المجتمعات المحلية في حالة من الفوضى المسلحة المنتقلة من جيل إلى جيل
تعتبر الخصومات ذات الطابع الثأري بمحافظات الصعيد، في مصر، من الملفات الصعبة والخطيرة، والمستمرة منذ سنوات عدة، تتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل، من دون الوصول إلى حلول لوقف هذه المأساة المزمنة. وغالباً ما تكون أسباب مشاكل الثأر بالصعيد التي تؤدي إلى القتل "تافهة"، لكنها تؤدي إلى مشاجرات ثم اشتباكات مسلحة، وتصل في النهاية إلى سقوط ضحايا أغلبهم من الشباب.
آخر ضحايا الثأر بمحافظات الصعيد، طالب بكلية طب الأسنان، في إحدى قرى محافظة المنيا، هو إسلام عبد الكريم، الذي قُتل على يد شقيقين، ولم يتركاه بعد طعنه بآلة حادة، إلّا بعد فصل رأسه عن جسده أمام ذهول عدد من المارة.
جريمة قتل طالب الطب هزّت الرأي العام في مصر، كونها تمت على يد أبناء عمه بسبب جريمة ثأر أخرى وقعت قبل خمسة أعوام انتقاماً لقتل شقيقهما، فتعقّباه عند دخوله أحد الممرات التجارية وقتلاه. وتمكنت أجهزة الأمن من القبض عليهما قبل الهروب، ليستمر مسلسل الثأر. من جهتهم، يطالب أهالي محافظات الصعيد بصفة خاصة، بضرورة اجتثاث عادة الثأر، والاهتمام بتنمية الصعيد اقتصادياً، كون البعض يرى أنّ ارتفاع نسبة البطالة وتدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وتدني مستوى الخدمات وضعف البنية التحتية، هي الأسباب الحقيقية وراء زيادة معدل جريمة الثأر، فيما أكدت إحصاءات صادرة عن وزارة الصحة المصرية أنّ عدد ضحايا الثأر في محافظات المنيا وأسيوط وسوهاج وقنا يفوق عدد ضحايا حوادث السير.
ويعاني أهالي صعيد مصر منذ مئات السنين من جرائم الثأر بين ربوعه، وهي الجريمة التي أدت إلى مقتل آلاف الأشخاص، معظمهم من الشباب، فضلاً عن تشرد المئات منهم هرباً من تلك الجريمة، إذ شبّ أطفال ولم يجدوا آباءهم على قيد الحياة، وفقدت النساء الأزواج ما تبقى من العمر، واستقبلت السجون نصيبها من المتورطين في جرائم الثأر. وقد وصل الأمر خلال الآونة الأخيرة بأصحاب الدم إلى إذلال الضحية بدلاً من قتله، حال الصلح، من خلال قصّ شاربه ولحيته وتقديمه كفنه لأصحاب الدم بملابسه الداخلية أمام جمع غفير من الناس، في الوقت الذي يرفض فيه أهالي الصعيد قبول الدية عوضاً عن الثأر، كونهم يرونها عيباً وعاراً وسط ذويهم وأهالي بلدتهم.
يرى محمد العمدة، أحد أعيان قرى صعيد مصر، ومسؤول للمصالحات بجرائم الثأر، أنّ الجريمة من الصعب التخلص منها، لتبقى سلسلة الدم كارثة تهدد الأرواح، ممن لا ذنب لهم غير أنّهم أبناء لبيئة مجتمعية لا تعرف سوى لغة الدم والثأر، تحكمها النزاعات والعصبيات القبلية، مبيناً أنّ ارتفاع مستوى البطالة، وتدني الخدمات خصوصاً في القرى، وراء زيادة نسبة جريمة الثأر. يوضح أنّ معظم الخلافات والشجارات بين الأقارب تعود لغياب ما يشغلهم من أعمال، فحتى الأراضي الزراعية تدهورت أحوالها بسبب ارتفاع أسعار مستلزمات الزراعة، وباتت دوافع مشاكل الثأر كلّها تافهة، إلى حدّ أنّ سبعة شبان قتلوا بين عائلتين بسبب مقتل كلب، على يد أحد الأشخاص بعدما هجم عليه، فنشب خلاف بين العائلتين أدى إلى مقتل شاب وتوالت بعدها عملية الثأر بينهما، كلّ عائلة تقتل واحداً من الطرف الآخر. يضيف العمدة أنّ هناك قوانين تحكم عملية الثأر، فالقتيل من العائلة الثانية يجب أن يوازي القتيل من العائلة الأولى في السنّ والمنصب، فقتل شاب يواجه بقتل شاب آخر من العائلة الأخرى، كما أنّ الأبناء هم الأحق بالقصاص لدم أبيهم أو شقيقهم، وإذا لم يكن للقتيل أبناء أو أشقاء، فحق المطالبة بالدم ينتقل إلى أبناء العم، والثأر في الصعيد لا يلزم سوى أقارب الدم، أي من ناحية الأب، ولا علاقة لأقارب الأم بعملية الثأر، وإن كان الأمر لا يخلو من الدعم والمساعدة.
ويشير يوسف عبد العال، وهو عضو بلجنة المصالحات في الصعيد، إلى أنّ جرائم الثأر لا تسقط بالتقادم، حتى لو مرّت عليها سنوات طويلة، أو ظلّ القاتل سنوات عدة هارباً. ويؤكد أنّ معظم عائلات الصعيد تجيد استخدام السلاح، ولديها كميات من الأسلحة متوفرة في ساحة المعارك، بالرغم من الفقر الذي يعانون منه. ويتابع أنّ الكارثة الكبرى أنّ الأجهزة الأمنية على علم بالأسلحة المنتشرة بين أيدي الأهالي، لكنّها لا تستطيع القيام بحملات عليها خوفاً من انتقام الصعايدة،. يتابع أنّ تجارة السلاح من الأنشطة الرائجة بمحافظات الصعيد، ومعظمها يأتي عبر الجبال، خصوصاً ما يتعلق بالأسلحة الآلية والرشاشات، لافتاً إلى أنّ كلّ المبادرات التي أطلقها أهالي الصعيد فشلت في احتواء الأزمة.
ويؤيد أحد أئمة المساجد حكم الإعدام، وهو ما يخالفه كثيرون، ويوضح مفضلاً عدم نشر اسمه أنّ "غياب الشريعة الإسلامية، وعدم تطبيق القصاص، هما وراء استمرار مسلسل الدم في الصعيد، بمعنى أنّه يجب على السلطات القضائية إصدار أحكام بالإعدام، وليس الحكم بالأشغال الشاقة، فالمحاكم لا تأخذ بمبدأ قتل من قتل، وهو ما يجعل منها أداة لا قيمة لها في تحقيق معنى القصاص، إذ يخرج القاتل بعد العقوبة، ويمشي أمام عائلة القتيل، التي تتعرّض للمعايرة من قبل البعض، وهو أسلوب خطير موجود في قرى الصعيد، فيلجؤون بعدها إلى مسح عارهم بقتل القاتل". كذلك، يشير إلى أنّ الصعيد بحاجة قوية إلى أن يكون موضع اهتمام حقيقي من جانب الحكومة المصرية، وليس مجرد اهتمام موسمي حين تحلّ به كارثة، متهكماً بأنّ النظام يتعامل مع جرائم الثأر في الصعيد باعتبارها من وسائل تنظيم الأسرة للقضاء على مشكلة الزيادة السكانية، ويتابع قائلاً: "أحد الضباط الكبار أكد على ذلك في جريمة ثأر: خلِّ الصعايدة يخفّو (ينقصون عدداً)". ويتساءل إمام المسجد: "لماذا لا تحصر مديريات الأمن في محافظات الصعيد الخصومات الثأرية بين العائلات حتى الآن؟ ولماذا لا تطلق وزارة الأوقاف قوافل دعوية جادة للجلوس مع أطراف الخصومات للتحذير من عواقب القتل؟ ولماذا لا تعالج إجراءات التقاضي في المحاكم في قضايا القتل الثأرية بأحكام رادعة؟".
أما الدكتور محمود زكي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة "حلوان" وأحد أبناء الصعيد، فيقول إنّ مواجهة الثأر بالصعيد تتطلّب عقد لقاءات على الأرض مع أطراف الخصومات الثأرية، فضلاً عن عقد هذه اللقاءات بلجان تضم أكاديميين متخصصين بعيداً عن الشخصيات السياسية التي توظف هذه الخصومات لمصالح شخصية، بالإضافة إلى توعية الشباب ممن يتحملون عبء هذا الموروث عن الآباء والأجداد، بخطورة الأمر، مطالباً بضرورة تحرك جميع الجهات المصرية لوضع حلول لتلك الأزمة المجتمعية الخطيرة.