أخر الأخبار
“المصالحة الفلسطينية “: تفاؤل العاطفة وكوابح الواقع
“المصالحة الفلسطينية “: تفاؤل العاطفة وكوابح الواقع

بداية: حظوظ نجاح "اتفاق إعلان غزة" في تنفيذ اتفاقات "المصالحة"، هي- بلا شك - الأعلى نسبة لأي اتفاق سابق.
أما توزيع التوقعات تجاه نجاح هذا الاتفاق بين متفائلة ومتشائمة، أو مبشرة ومنفرة، فتعسف يبسط - بقصد أو بغير قصد - إنهاء الانقسام بوصفه مسألة سياسية معقدة حدَّ التعامل معه كمسألة عاطفية أو إجرائية. لماذا؟
إن تذليل معيقات وعقبات وكوابح تنفيذ هذا الاتفاق لا يتعلق - فقط - بتوافر إرادة سياسية وطنية داخلية على أهميتها.
فالاتفاق لا ينص - فقط - على تشكيل حكومة انتقالية للسلطة، كبند يمكن بتوافق وطني داخلي ومظلة عربية، تنفيذه، وتحمل تبعات رد الفعل الإسرائيلي - الأميركي والخارجي، عموماً، عليه.
بل ينص - أيضاً - على إجراء انتخابات سياسية متزامنة لـ "المجلس الوطني" للمنظمة، ولرئاسة و"مجلس تشريعي" السلطة، كمؤسسات وطنية عامة يقر الجميع بانتهاء شرعياتها، وبضرورة تجديدها وتوحيدها، فيما يعلم الجميع - أيضاً - أن التوافق الوطني الداخلي على إجراء هذه الانتخابات السياسية، وعلى تحديد آلياتها وجدولها الزمني، لا يعني القدرة على عقدها.
فتشكيل "مجلس وطني" جديد بالانتخاب يعني مشاركة كل أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات في انتخابه، بينما يتعذر مشاركة تجمعاتهم الأساسية، سواء في الأردن لأسباب سياسية معروفة، أو في سورية، وربما في لبنان أيضاً، لأسباب أمنية غير خافية.
هذا بينما لا يمكن إجراء الانتخابات "الرئاسية" و"التشريعية" للسلطة الفلسطينية في الضفة والقدس وقطاع غزة، إلا وفقاً لتعاقد "أوسلو" وشروطه والتزاماته السياسية والأمنية والاقتصادية التي ربما، (بل بالتأكيد)، ستضيف عليها حكومة نتنياهو شروطاً ابتزازية تعجيزية جديدة تتجاوز شروط إجرائها في العامين 1996 و2006، وفي أقله منعها في القدس.
إذاً نحن لسنا أمام ترف أن نكون متفائلين أو متشائمين، مبشرين أو منفرين، إنما أمام حاجة للمزيد من البحث في قضية الانتخابات السياسية الفلسطينية وأسئلتها الواقعية المعقدة، ذلك حتى في ظل توافر إجماع وطني وإرادة سياسية داخلية جادة على إجرائها ضمن آليات وجداول زمنية محددة.
فـ "ما ينبغي" هنا شيء وشروط ومعيقات تنفيذه في الواقع شيء آخر. وفي زمانه قال الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر ما مفاده: يستطيع كاتب مقال أن يقترح - وهو يتناول قهوة صباحه - تصوراً نظرياً لكل "ما ينبغي" عمله لحل قضية سياسية كبرى، متناسياً ما يعترض سبيل تنفيذ تصوره في الواقع من معيقات وعقبات وكوابح معقدة.
لذلك يبدو لي أنه لأجل ضمان تنفيذ بنود "اتفاق إعلان غزة" المتعلقة بتجديد شرعية المؤسسات الوطنية العامة وتوحيدها، فإن على الجميع الاعتراف بأن هنالك حاجة للتفكير في تجاوز صيغة: (بالانتخاب حيث أمكن، وبالتوافق حيث تعذر)، إلى صيغة: (بالتوافق إن تعذر الانتخاب).
والفرق بين الصيغتين ليس مجرد فرق لغوي، بل هو فرق جوهري يكثفه أن من شأن التجرؤ على اللجوء إلى الصيغة الثانية، وخلق إرادة سياسية وشعبية ومجتمعية تدعمها، أن يزيل المعيقات والعقبات والكوابح الخارجية التي تحول دون تنفيذ "ما ينبغي"، بما يجعل الإرادة الوطنية القول الفصل في إنهاء الانقسام وتجديد شرعيات المؤسسات الوطنية العامة وتوحيد محتواها السياسي والأمني والنضالي والاقتصادي والقانوني، وبما يحول دون توقف دوران عجلة "اتفاق إعلان غزة" عند محطة تشكيل حكومة انتقالية تحولها كوابح خارجية وداخلية، إلى "طربوش" يغطي بقاء مفردات الانقسام، سياسياً وأمنياً وأجندات ورهانات متباينة، على حالها. ماذا يعني هذا الكلام؟
ليس لأحدٍ أن يدعو الناس إلى الإفراط في التفاؤل المساوي لتغييب دروس فشل اتفاقات سبع سنوات خلت، بل ولتغييب آراء تنبه، وإن بدت متشائمة أو منفرة، لما يضمن عدم فشل "اتفاق إعلان غزة"، خاصة وأن الأسباب الفعلية لإبرامه تعود بدرجة كبيرة، على الأقل، إلى حاجة صناع الانقسام والمستفيدين منه للخروج من مآزق خاصة أفضى إليها.
بل ويعلم الجميع أن صناع الانقسام والمستفيدين منه هم أنفسهم من سيتولون تنفيذ "اتفاق إعلان غزة" كخارطة طريق لتنفيذ بنود اتفاقات سابقة أفشلوها، رغم أن أبناء الشعب الفلسطيني، في أماكن تواجده كافة، لم يساورهم شك في أن انقسام السنوات السبع الماضية، شكل ربحاً صافياً لحكومات الاحتلال وسياساتها التوسعية العدوانية المتمادية.
وقد جاءت الردود الإسرائيلية الهستيرية على "اتفاق إعلان غزة" لتقطع الشك باليقين، وتؤكد أن لا حركة "فتح"، ولا حركة "حماس"، بما في داخل كل منهما من تيارات ومراكز قوى، تستطيع منفردة أن تشكل طريقاً للخلاص الوطني، وأن سنوات انقسامهما السبع لم تسفر عن إضعاف المحتوى الشعبي للوطنية الفلسطينية وتشويه صورتها وضرب قيمها وثوابتها ومرتكزاتها الثقافية والسياسية والأمنية والنضالية، فحسب، بل أسفرت أيضاً عن إضعاف دور ومكانة ووزن وهيبة كل من الحركتين، إن على الصعيد الداخلي، أو، (وهنا الأهم)، على صعيد مجابهة الاحتلال وإدارة الصراع معه.
لذلك، تصبح الدعوة إلى التفاؤل عوض التشاؤم، وإلى التبشير عوض التنفير، مجرد دعوة عاطفية غير سياسية، بل وتشكل، بمعزل عن النوايا، غطاء للمرور مر الكرام على الدروس المريرة لسبع سنوات عجاف، كدروس لا يمكن للنخب القيادية الفلسطينية بألوانها استيعاب كامل معانيها، وهضمها، والتعلم منها، إلا ببناء السياسة، خطاباً وممارسة، على أساس خصوصية الوطنية الفلسطينية، عموماً، ومقتضيات محتواها الشعبي خصوصاً.
فالنخب القيادية الفلسطينية إما أن تعزز المحتوى الشعبي للوطنية الفلسطينية أو تضعفه، فيما لهذا الخيار أو ذاك الدور الأساس في تعزيز وتقوية الشرعية الشعبية لهذه النخب أو إضعافها وتآكلها، تقدم الأمر أو تأخر.
هذا هو الدرس الأول والأساس لمسيرة الوطنية الفلسطينية وصيرورتها. أعني أن انقسامات النخب السياسية والفكرية القيادية الفلسطينية، كما لم تفضِ في الماضي، فإنها لن تفضي لا في الحاضر ولا في المستقبل، إلى تفريغ الوطنية الفلسطينية من محتواها الشعبي، إنما إلى إضعافه وتشويه صورته وضرب قيمه إلى حين يطول أو يقصر، ما يعني أن الشعب الفلسطيني كما كان ماضياً، يظل حاضراً، وسيظل مستقبلاً، هو القادر على انتشال عربة الوطنية الفلسطينية من وهدات تيه انقسامات نخبه القيادية. فالذاكرة الجمعية الفلسطينية مثقلة بدماء غزيرة سالت على مدار قرنٍ ويزيد، وطوعاً وعن طيب خاطر، دفاعاً عن الوطن، ما يعنى أن رسوخ المحتوى الشعبي للوطنية الفلسطينية الناجم عن تغلغل الثورة ثقافة وأدوات وأشكالاً وأساليب عمل في أوساط الشعب الفلسطيني، هو، عامل العوامل القادر على إفشال رهانات قادة إسرائيل على الانقسام الحالي، بإجبار طرفيه على تنفيذ بنود الاتفاقات الوطنية لإنهائه، بعد أن بددا سبع سنوات، وكل منهما على طريقته، في الرهان على خيارات فاشلة لم تفض إلا إلى مأزق وطني عام، وإلى مأزق خاص لكل منهما.
بهذا المعنى يصبح التفاؤل بتنفيذ اتفاقات إنهاء الانقسام، سياسيا تتيحه الثقة بقدرة الشعب الفلسطيني على تجاوز مأزق وطني تداخلت أسبابه الخارجية والداخلية، لكن أساسها، في الحالات كافة، هو السياسات التصعيدية الهجومية لجميع حكومات الاحتلال، فما بالكم بسياسات أشدها تطرفاً حكومة المستوطنين بزعامة نتنياهو التي لا تبحث عن تسوية سياسية أو "حل وسط" للصراع، بل إن كل ما تسعى إليه هو استمرار التفاوض كغطاء لابتلاع المزيد من الأرض الفلسطينية، ولتصعيد التنكيل بشعبها.
خذوا آخر وقاحات نتنياهو الذي يحث "الكنيست" على سن قانون أساسي يحصن بقاء إسرائيل "دولة لشعب واحد هو الشعب اليهودي"، ويؤكد صلة هذا الشعب بأرضه، ويحفظ استمرار هجرته إليها، طبعا دون أن ينسى تجميل صورة مشروع هذا القانون العنصري بإضافة مسحوق: "مع ضمان الحريات الفردية لغير اليهود من مواطني إسرائيل".
هذا بينما لحس السيد كيري كلماته حول أن إفشال قادة إسرائيل لجهود "عملية السلام" سيحولها إلى دولة عنصرية، وكأنها ليست كذلك منذ نشأتها.