أخر الأخبار
إنّه الإعلام المجرم!؟
إنّه الإعلام المجرم!؟

أكثر من أيّ وقت مضى تعزّ الحاجة إلى تفاهم بين اللبنانيّين، يكمّل النشاط السياسيّ ويصلّب الجهود الدبلوماسيّة. وهذا ليس كليشيهاً ووعظاً إذ يحضّ عليه مدى توحّش المشروع الإسرائيليّ وتعاظم شروطه المهدّدة للسيادة الوطنيّة، واحتمال إفضائه إلى احتلال كبير أو صغير. فذاك الثور الهائج يمضي غير هيّاب ولا مردوع، في غزّة وفي لبنان، يستهدف بإيقاع يوميّ المدنيّين والأطقم الطبّيّة والصحافيّين والمسعفين والمدارس والقوّات الدوليّة والمؤسّسات الإنسانيّة وجنوداً لبنانيّين، استهدافه الطبيعة والعمران في عمومهما. ونحن، بدورنا، نزداد غرقاً في كارثة تتوسّع قتلاً وتدميراً وتهجيراً وفقراً، فيما الوطن نفسه يكاد يتلاشى ويضمحلّ. لكنْ لا بدّ خدمةً لتقارب اللبنانيّين، من التأمّل ومراجعة ما حصل، ومحاولة تفادي ما يمكن تفاديه، وذلك بدل الإصرار على الأسطوانة المشروخة إيّاها المُعدّة لكلّ زمان ومكان والمحلّقة تحليقاً سعيداً فوق أرض تحترق. بيد أنّ المراجعة التي تخدم التفاهم هي أكثر ما لا يحدث. فبدل التنقيب في النفس ومساءلتها، يسود الاعتصام بقول البسطاميّ «سبحاني ما أعظم شاني»، فيما تُردّ الطعنات التي تصيب عظمة العظيم إلى عوامل لا دخل لأيّ من أفعاله بها، لا من قريب ولا من بعيد. وعلى جاري العادة يحظى الإعلام، لا سيّما التلفزيونيّ منه، بحصّة معتبرة من تحميل المسؤوليّة، ومن الشتم والتشهير والدعوة إلى المقاطعة. ذاك أنّ المطلوب أن نمضي في الإنصات إلى صدى صوتنا، وفي تكرار روايتنا الفقيرة عمّا يدور، إذ في ممارسة كهذه تنقلب أمنياتنا وقائع ويزول عنّا الكرب. والحال أنّ من سمات الوعي السلطويّ، في لحظات جنوحه التآمريّ، ردّ الوقائع غير الملائمة إلى الإعلام بوصفه ما يتلاعب بالعقل ويزيّف الحقائق. هكذا لا تكون مسؤوليّة السياسيّين وتابعيهم ما يفضي إلى النهايات البائسة، بل مسؤوليّة حفنة من إعلاميّين وأصحاب رأي مأجورين ومضلّلين... وهذا علماً بأنّ قتلاً معنويّاً كهذا يسير في موازاة القتل الماديّ الذي تُنزله إسرائيل بزملاء صحافيّين. نعم، حصل انفجار تعبيريّ في لبنان قبل شهر ونيّف، خصوصاً وقد تبيّن أنّ التضحيات التي قُدّمت بذريعة إحراز القوّة والحماية ذهبت كلّها سدى، فانتهينا إلى هذا الانهيار غير مشمولين بأيّة قوّة وحماية. وكان من نتائج انشغال «حزب الله» بهمّه أن أتاح لكثيرين ممّن كبت الخوف أنفاسهم أن يقولوا رأيهم في أمر حياتهم وبلدهم. لكنّ افتعال المفاجأة بـ«المؤامرة» لم يكن في محلّه، ولا كانت في محلّها إحالة الفهم إلى الهجاء بما ينمّ عن عيش الهجّائين في جوار الانهيار العصبيّ. فنقّاد «حزب الله» لم يغشّوه قبلاً، وهم منذ عقود يعلنون عن خلافهم الجذريّ معه وعن اعتراضهم العميق على سياساته وحروبه. وإذا جاز لعبد الملك الحوثيّ أن يتحدّث في خطابه الأخير عن «التفاف الشعب اللبنانيّ حول المقاومة»، فهذا ما يعرف اللبنانيّون، بمن فيهم محازبو «الحزب»، أنّه لا أكثر من حديث خرافة. فالكلّ يعلم أنّ الخلاف طال كلّ شيء تقريباً، وعلى ضفافه سقط دم وضحايا جمع بينهم كلّهم تحفّظهم على سياسات المقاومة وتوابعها. والكلّ يعرف أنّ كتلاً لبنانيّة ضخمة رأت منذ البداية أنّ السلاح مانعٌ للمساواة بين المواطنين، كما هو مانع لقيام دولة ولاستقرار مجتمع، وأنّ «استعادة مزارع شبعا» لا تقنع دجاجة منتوفة الريش بهذه العسكرة المتمادية للمجتمع والسياسة. والكلّ يعرف كيف أنّ الممانعين أمسكوا بالعمليّة السياسيّة من عنقها، فحاصروا الحكومة بـ«الثلث المعطّل» وأغلقوا البرلمان قبل أن يشترطوا اسماً واحداً أوحد لرئاسة الجمهوريّة. والكلّ يعرف أنّ سياسة الالتحاق بإيران وتدمير علاقات لبنان العربيّة والغربيّة هي ما اعتبرته أكثريّة معتبرة تدميراً لنموذجها المرغوب عن الوطن. والكلّ يعرف أنّ حرب «حزب الله» في سوريّا كانت، في نظر لبنانيّين كثيرين، قراراً بالعدوان على شعب مجاور وبتهجيره. والكلّ يعرف أنّ الأوصاف التي كان قادة من «حزب الله» يطلقونها، بين فينة وأخرى، على البلد بوصفه بلد «الملاهي والمسابح...»، إنّما تشي بافتراق ضخم في النظر إلى الحياة ذاتها، فضلاً عن وظائف البلد وسكّانه. والكلّ يعرف أنّ إعادة النظر بـ«العيش المشترك» ذاته بدأ يصبح مطلباً شعبيّاً متعاظم النفوذ في بعض البيئات، وهذا قبل وقت طويل على السابع والثامن من أكتوبر... فشتم الإعلام والإعلاميّين ليس بالتالي سوى تفاهة مثيرة للشفقة قياساً بحجم المشكلة التي لا تتغلّب عليها الشتائم، ولا يذلّلها افتراضُ ساذج من أنّ صرخة «هبّوا لملاقاة العدوّ الصهيونيّ في الميدان» كافية لإيقافنا صفّاً واحداً كأسنان مشط كوريّ شماليّ. لقد سيق البلد إلى الحرب في ظلّ هذا الانشقاق الهائل الذي صنعته أفعال بعينها ولم يصنعه الإعلام والإعلاميّون. فهل نفكّر الآن، وقد حصل ما حصل، في الارتفاع إلى سويّة أرقى وأشدّ شعوراً بالمسؤوليّة، بحيث نقود حطام البلد إلى السلم في ظلّ حدّ، ولو أدنى، من الوحدة؟