أخر الأخبار
مالطا: صمود الجذور الشرقية في وجه التغيير
مالطا: صمود الجذور الشرقية في وجه التغيير

وأنت تتجول في أزقَّة المدينة القديمة في فاليتا بمالطا، لا ترى أثراً يُذكر لحكم العرب (870- 1091) في الجزيرة. كل الآثار القديمة لحكم بني الأغلب، بما فيها المسجد الكبير، تم محوها عبر قرون من الحكم المسيحي، ابتداءً من النورمان (220 سنة) ومروراً بحكم مملكة أراغون (214 سنة) وحكم الفرسان الإسبتارية (268 سنة)، وسنتين من الحكم الفرنسي (1798- 1800) والحكم البريطاني من 1800 إلى 1964.

قد تقرأ في كتب التاريخ أن العرب شيدوا البنيان ووضعوا القنوات وأنظمة الري وبنوا المساجد والقصور، ولكن كل هذا لم يعد له أثر يُذكر في مالطا، اللهم بعض المدافن هنا وهناك، أو بعض الآثار الأركيولوجية المخبأة تحت الأنقاض.

ربما ما لم يستطع الغزو المسيحي اقتلاعه هو الأصل العربي للغة المالطية؛ حيث إنها لغة سامية تستمد أصولها من اللهجة العربية الصقلية، والتي عرفت أوجها إبَّان حكم الأغالبة لصقلية ومالطا. ورغم أن المفردات الهجينة ذات الأصل السامي هي فقط 33 في المائة؜، مقارنة مع المفردات ذات الأصل النورماني (50 في المائة؜) وذات الأصل الإنجليزي (17 في المائة؜)، فإن ترتيب الكلمات ووظائفها النحوية والعلاقات فيما بينها هي سامية، حسب أهل الاختصاص (انظر ألبرت بورغ وماري أزوباردي- ألكسندر (1997)- «المالطية» في سلسلة روتليدج للقواعد الوصفية).

والمالطية ليست لغة «كريولية» لأن تشكيل اللغة الكريولية يقع عندما يستعمل متحدثو لغات محلية لغة مُبَسَّطة (بيدجين) تستنبط عباراتها من لغة الاستعمار أو أسياد العبيد المهيمِنة من جهة، وقواعدها من اللغات المحلية من جهة، وذلك لضمان أسس تواصل بسيط. وحين يبدأ الأطفال في استعمال هذه اللغة الهجينة كلغة أم، فإن اللغة تمر إلى مرحلة «التوطين» لتصبح بعدها «كريُولاً» يعبر عن جميع مناحي الحياة، ويعكس النسق الاجتماعي والتاريخي والثقافي الذي تشكلت فيه، والذي يكون غالباً وضعية استعمار أو عبودية أو تجارة عبر موانٍ معينة. وهذا المسلسل لا ينطبق على المالطية؛ لأنها كانت لغة موجودة قبل مجيء المسيحيين، وتأثرت بلغات الغزاة، ولكنها لم تفقد هويتها التركيبية.

نعم، هناك تأثيرات أخرى قد تطفو هنا وهناك تظهر في البشرة والسلوك والعمق الثقافي، ولكن الطابع الغالب هو غربي أوروبي بجذور مسيحية. وقد كان هناك عمل ممنهج قام به النورمان ومملكة أراغون والفرسان الإسبتاريون، لإزالة أي تأثير إسلامي في الجزيرة.

إبان حكم النورمان (1091- 1194) بدأت عملية إزالة التأثير العربي الإسلامي، ولكن النورمان ولأسباب عملية اعتمدوا سياسة قوامها التعايش بين المسيحية والإسلام. في عهد حكم الأراغونيين (1282- 1530) اشتدت هذه العملية، وتُوِّجت بطرد كامل للمسلمين؛ حيث إن «مرسوم الطرد» الذي وقَّعه فرديناند وإيزابيلا بعد سقوط غرناطة في 1492، تم تطبيقه كذلك في مالطا الواقعة تحت حكم الملوك الكاثوليكيين. أما في عهد الفرسان الإسبتاريين (1530- 1798)، والذين أسّسوا حكماً عسكرياً، واعتبروا أنفسهم قلعة مسيحية متقدمة في مواجهة العثمانيين، فقد حظروا الطقوس الإسلامية، وركزوا على بناء الكنائس، وتقوية الهوية المسيحية للجزيرة على حساب التأثير الإسلامي؛ بل إنهم استعملوا أسرى الحرب المسلمين كعبيد للعمل الشاق، وتم تمسيح جزء كبير منهم (انظر كتاب غوتفري وتينغر، «مسلمو مالطا»، 1993).

ولكن لماذا قاومت الجذور السامية للمالطية عملية التمسيح المنهجية منذ القرن الحادي عشر حتى أواخر القرن الثامن عشر؟ أولاً؛ لأن حكام مالطا المسيحيين لم يهتموا بهندسة جديدة للغة المالطية؛ لأن ما كان يهمهم هو التحول الديني وطمس مظاهر الإسلام واستبدال المعمار والبناء «المسيحي» بها. ثانياً؛ لأن اللغة التي كانت تُستعمل في القداس والطقوس المسيحية هي اللاتينية، ولم يكن هناك اهتمام كبير بالمالطية إلا حين يتعلق الأمر بالتواصل مع السكان المحليين. هكذا احتفظت المالطية ببنيتها السامية، رغم التأثير اللغوي للغات الإيطالية والإسبانية والفرنسية والإنجليزية.

الأمثلة عن المقاومة اللغوية لعملية التغيير الثقافي الممنهج متعددة، نذكر منها كيف أن الآيرلندية قاومت الغزو الثقافي الإنجليزي. ولكن الاختلاف يكمن في أن الحركة القومية الآيرلندية ربطت إعادة إحياء الهوية بالمحافظة على اللغة الغيلية؛ بينما في مالطا لم تكن هناك أي محاولة لمقاومة الغزو المسيحي؛ بل إن المالطيين انخرطوا عبر الزمن في عملية التغيير وحافظوا على الجذور السامية للغتهم.

هذه الازدواجية هي ما تميز الثقافة المالطية في علاقتها مع الثقافات الأوروبية الأخرى. وربما هذا ما يجعل المالطيين أكثر الأوروبيين ازدواجية في الثقافة من غيرهم. وهذا ما يلاحظه المسافر العربي حين يحط الرحال بأرض حكمها بنو الأغلب قروناً، قبل القساوسة الإسبتاريين: فالمالطيون ببشرتهم، وسلوكياتهم، وحفاوتهم، وبساطة علاقاتهم مع الآخر، يشبهون إلى حد بعيد قيم وعادات العرب. بل ربما الوجود العربي هو اللحظة المؤسسة للعمق الثقافي الذي قاوم -وما زال يقاوم- مسلسل التغيير الثقافي الذي بدأ مع النورمان، وعرف أوْجَه مع الأراغونيين وخصوصاً مع الإسبتاريين.