أخر الأخبار
المليارديرات والسياسة وحرية التعبير
المليارديرات والسياسة وحرية التعبير

الملياردير مارك زوكربيرغ، صاحب «ميتا» (فيسبوك سابقاً) اختطف مانشيتات الصحف ونشرات الأخبار على الوسائل التقليدية والحديثة هذا الأسبوع من الملياردير الأكبر، أغنى رجل في العالم، إيلون ماسك، صاحب «إكس» (تويتر سابقاً). الأخير يستحوذ على اهتمام الصحافة والشبكات لفترة أطول في معركة تغريد متصاعدة على منصته ينتقد فيها الحكومة البريطانية العمالية بزعامة السير كير ستارمر، وبدورها تتناقص شعبيتها وفي مأزق اقتصادي وسياسي.

ماسك يركز على أحداث ومطالب وراء تدهور شعبية ستارمر؛ مطالب تتوحد فيها المعارضة وقطاعات من الشعب (76 في المائة عموماً و65 في المائة من ناخبي العمال في الاستطلاعات) خصوصاً المزارعين، ومناطق الريف، والطبقات غير الميسورة من السكان البريطانيين الأصليين، ومعظم الصحف باستثناء أقلية في الإعلام اليساري. مستشارو ستارمر قلقون من سياسات تضر بالتجارة البريطانية قد يتخذها دونالد ترمب بعد توليه الرئاسة الأميركية؛ وكان رسميون في حزب العمال ساعدوا منافسته كامالا هاريس أثناء الحملة الانتخابية، كما أن وزراء عماليين يجاهرون بعداوتهم لترمب. الأخير منح ماسك منصباً مؤثراً في إدارته، وهو السبب، في رأي أغلبية المراقبين، الذي دفع زوكربيرغ إلى إعلانه إلغاء لجنة أو خدمة ما يعرف بالتدقيق في صحة المعلومات (وهي في الحقيقة «رقابة» على النشر «لفلترة» أو تصفية ما قد يجرح المشاعر لأقليات وتيارات أو يتسبب في قلق لإدارات وحكومات ومؤسسات أغلبها ليبرالية). كثيرون يرون توقيت زوكربيرغ «انتهازياً»، والبعض الآخر «مراضاة لترمب» الذي كان زوكربيرغ منع حسابه من النشر، دعماً للديمقراطيين، والبعض الثالث يضيف عامل المنافسة مع منصة «إكس». ففور امتلاك ماسك «إكس»، أعلن دعمه التام لحرية التعبير وإنهاء الرقابة بإلغاء اللجان المماثلة لتلك التي سرح زوكربيرغ موظفيها من «ميتا». والأخير يعرف أن الجمهور الأميركي يعطي أولوية بالغة لحرية التعبير والنشر؛ حسب المادة الأولى من الدستور الأميركي التي تحمي حق المواطن في إهانة الرموز الوطنية، كحرق العلم الأميركي نفسه بوصفه وسيلة تعبير عن الاحتجاج.

وزوكربيرغ يحاول اللحاق بـ«إكس» حول العالم، خصوصاً أن حكومات (لا تصنف في أميركا وأوروبا على أنها «ديمقراطية») تحجب بعض - وأحياناً معظم أو كل - ما ينشر على «إكس»، والنتيجة تصوير ماسك لنفسه فارساً نبيلاً يقود حملة عالمية دفاعاً عن حرية التعبير. المفارقة التاريخية أنه في السنوات الأخيرة، أصبحت التيارات المعروفة تقليدياً بـ«التقدمية» - والمقصود اليسار بأطيافه من الليبرالية إلى الماركسية - هي التي تدعو إلى الرقابة وتحجب النشر، وتمنع مشاركة مفكرين وشخصيات بارزة من مخاطبة الجموع بذرائع مختلفة وما عرف بالصوابية السياسية؛ بينما يحمل المحافظون وجماعات ووسائل إعلام يمين الوسط لواء حرية التعبير والنشر. وحتى اليمين القديم (المتطرف أو الشعبوي في قاموس صحافة اليسار) انضم إلى حملة الدفاع عن حرية التعبير؛ سواء إيماناً بالمبدأ أو بسبب مقاطعة أغلبية الإعلام الليبرالي واليساري لهم. ماسك بدوره في تغريداته يغازل هذه الأحزاب والتيارات في أوروبا؛ وهو ما دفع بكثير من الشخصيات الإعلامية ونجوم المجتمع في بريطانيا وأوروبا إلى إعلانهم هجرهم منصة «إكس» وإغلاق حساباتهم فيها. لكن ماسك أدرك بحسابات رجل السوق أن استطلاعات الرأي ونتائج الانتخابات في بلدان وسط أوروبا وإيطاليا وفرنسا تشير إلى تقدم هذه الأحزاب والتيارات.

زوكربيرغ بدوره يدرك أن رفع سقف الحرية بإلغاء التقييم من «فيسبوك» ومنصات «ميتا» موجه لأميركا، ولن يستفيد منه المستخدمون في بلدان أوروبا، التي تتبع قوانين الاتحاد الأوروبي، أو قوانينها الخاصة، الأكثر صرامة في محاسبة منصات التواصل الاجتماعي كأنها دور نشر، مسؤولة عن المحتوى الذي يوضع عليها. المبرر لإصدار هذه اللوائح بدأ بحماية الأطفال والقصر، ثم بدأت تتوسع تدريجياً لتشمل حماية ما يثير حساسية أو يهين الأقليات والعرقيات، والجماعات والتيارات ذات التوجهات المتعددة، وأضيفت إليها بنود يصعب على المحامين تعريفها بشكل محدد مثل خطاب الكراهية، أو إهانة طائفة أو مجموعة أو ترويج أكاذيب مضللة تسبب أضراراً.

تحت البند الأخير وجهت حكومة ستارمر وحدة أمنية في وزارة الداخلية مخصصة لمكافحة التطرف لمتابعة تغريدات ماسك، وتقرير ما إذا كانت تهدد الأمن، أم لا، خصوصاً بعد شكوى وزيرة من أن هجوم ماسك عليها أثار المئات من التهديدات وخطاب الكراهية ضدها. خطوة غير موفقة من الزعيم البريطاني، فبجانب المجازفة باستفزاز إدارة ترمب، فإن المعلقين يقارنون حكومة العمال بحكومات في العالم الثالث يعدّها ستارمر غير ديمقراطية، اتخذت إجراءات لحجب «إكس» في بلدانها.