

تمهيداً لزيارة واشنطن ولقاء سيد البيت الأبيض، حدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الهدف من زيارته، بإعادة رسم خريطة المنطقة بشكل أكبر وإلى الأفضل، وتحقيق حقبة رائعة -حسب قوله- من السلام من خلال القوة. الجملة الأخيرة تحديداً تجسد حالة انفصال تام عن الواقع الذي تعيشه إسرائيل ونخبتها المتطرفة. فالسلام والقوة من دون توازن وعدالة وقبول طوعي، ليس سوى أضغاث أحلام.
أوهام تغيير المنطقة بما يحقق هيمنة إسرائيل بلا منافس أو منازع، تسيطر على العقل السياسي الإسرائيلي منذ فترة طويلة، وقبل العدوان الجامح على قطاع غزة، تساندهم في ذلك جماعات ضغط أميركية تؤمن بأسس الفكر الصهيوني، وتروِّج للمقولات الإسرائيلية ذاتها من دون تدبُّر، وأهمها مقولتان: الأولى أن إسرائيل ديمقراطية وسط غابة من التسلط والديكتاتورية، والوقوف معها أمر أخلاقي. والثانية أن حق إسرائيل المطلق في الدفاع عن وجودها بكل الوسائل الممكنة لا يقبل الجدل.
المقولتان تؤسسان لجملة أوهام وتطلعات من قبيل تغيير الإقليم بالقوة. كما تؤسسان لمقولات فرعية أخرى، من قبيل: حق إسرائيل في التوسع الإقليمي، وحق التخلص التام من أعدائها وإفنائهم، والحق في تجاهل الشعب الفلسطيني وحقوقه القومية، والحق في طرده من أراضيه. وطوال الخمسة عشر شهراً من عمليات التدمير المنهجي والشامل لقطاع غزة، والعمليات العسكرية المتصاعدة في الضفة الغربية منذ 6 أشهر، والتي تُماثل في تطبيقاتها ما جرى في قطاع غزة، تجسدت كل تلك المقولات عملياً، باعتبارها السبيل إلى تحقيق النصر المطلق الذي يؤسس لهيمنة إسرائيلية وسلام مفروض، يتجاوز القضية الفلسطينية إلى نطاق جغرافي أوسع يقبل بالرؤية الإسرائيلية من دون منازع.
وحين يحدد نتنياهو هدف زيارته المهمة لواشنطن بالبحث عن السلام من منطق القوة، فهو بذلك يعترف بأن كل ما فعله في قطاع غزة بالقوة المفرطة لم يحقق ما سعى إليه، وبأن تغيير المنطقة وفرض سلام بالقوة هو مجرد وهم كبير لا أساس له. والدلائل التي يسوقها الإعلام العبري ذاته، تكشف هذا المأزق من دون رتوش.
كثير من المحللين الإسرائيليين -ومنهم من طالب بالقضاء على كل فلسطيني أينما وجد، ومنهم من كان يتغنى بكل تجاوز إنساني يقوم به جيش الاحتلال في القطاع- يستشعرون قدراً هائلاً من الإحباط النفسي والضمور العقلي معاً. فالطريقة التي تعمدتها الفصائل في تسليم الأسرى الإسرائيليين، والمشهد المهيب لعودة النازحين الفلسطينيين من الجنوب إلى شمال القطاع، على الرغم من علم الجميع بحال التدهور الهائل في مناطقهم الأصلية، أوضح لهؤلاء المحللين أن القوة وحدها، ومهما كان حجمها واستخدامها بعيداً عن الأسس الأخلاقية والقانونية، لا توفر سلاماً ولا أماناً ولا شعوراً بالهيمنة، كما لا يمكنها أن تنزع شعباً عن أرضه، أو تفرض عليه الخنوع والتنازل عن الحق المشروع في مقاومة المحتل، مهما كان تفوقه العسكري، والتي بدورها تفشل فشلاً ذريعاً في اقتلاع ما يقر في القلوب وتصدقه الأعمال والتضحيات.
في الداخل الإسرائيلي، لا مؤشرات على مراجعة الذات وتأمل الدروس، دروس الفشل قبل دروس النجاح إن وُجدت.
استمرارية أوهام التعلق بالقوة وحدها لتحقيق أمن إسرائيل المُطلق، مقروناً بغياب أمن الآخرين، وإذعانهم وخنوعهم الطوعي، ما زالت تسيطر على العقل السياسي الإسرائيلي. وحين يسعى نتنياهو للحصول على مساعدة واشنطن لتحقيق النصر المطلق على فصائل المقاومة، فإن هذا يُعد اعترافاً بالفشل المزدوج، فمن دون مساعدة الولايات المتحدة لا تستطيع إسرائيل أن تحقق الأوهام المسيطرة على عقول نخبتها، ومن دون الدعم الأميركي غير المسبوق تصبح إسرائيل كورقة شجرة جافة في مهب الريح. ومع ذلك الفشل المزدوج في إدراك حقيقة إسرائيل وضعفها وهشاشتها، على الرغم من كل ما تملكه من قوة عسكرية جبارة، يصبح مشروع تغيير المنطقة كُلَّها كما يراها نتنياهو ونخبته من المتطرفين حوله، دليلاً على فقدان البصر والبصيرة.
يسعى نتنياهو إلى وضع تصوره اللامعقول بشأن اليوم التالي لغزة، والمشمول بـ: «لا إدارة فلسطينية للقطاع، سواء من قبل الفصائل الفلسطينية التي ما زالت تدير القطاع عملياً، أو من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية، واستمرار جيش الاحتلال مُسيطراً على مساحات واسعة من أراضي القطاع، بحجة توفير الأمن لما تُعرف بمستوطنات غلاف غزة، ونزع السلاح تماماً من القطاع على الرغم من عدم وجود سلطة تدير أوضاعه وتقوم بالمهمة، ووضع كل العقبات الممكنة لإعادة إعمار القطاع، والتهليل لأفكار تهجير الفلسطينيين، وتجاهل الرفض المصري والأردني المطلق الذي وصل إلى عنان السماء، والمشمول بتأييد عربي وإسلامي وأوروبي غير مسبوق»، ثم بعد ذلك يتحدث عن تحقيق سلام رائع بالقوة.
مثل هذا الإدراك الإسرائيلي الفاقد للمنطق والمعقول، يشكل بدوره إشكالية سياسية وفكرية لدول المنطقة ولكل شعوبها، التي تسعى إلى سلام قابل للاستمرار يستند إلى القانون الدولي وقيم العدالة، والتوازن في الأمن لكل الأطراف، ومعالجة جذرية للأسباب الدافعة للعنف. بمعنى آخر: لدى شعوب المنطقة وحكوماتها تصور مبدئي بديل مقرون بالمعقولية والتوازن، ومشمول أيضاً ببعض الخطوات العملية التي تدفع نحو تغييرات هيكلية في الإقليم، تستند إلى حقوق لا تقبل التنازل؛ أولها وأهمها إتمام اتفاق غزة بكل بنوده، من دون تراجع أو تلويح بالعودة إلى الحرب، وإعمار القطاع بدعم دولي غير مشروط، ومن دون تهديدات لتهجير أصحابه إلى المجهول، وخطوات مُلزمة وفق إطار زمني محدد للتفاوض وفق حل الدولتين تحت مظلة ميثاق الأمم المتحدة.
عقلاء المنطقة في مصر والسعودية والأردن وقطر وغيرها، يطرحون البديل المتكامل لتغيرات هيكلية توفر للجميع سلام الحق والتوازن، وهو موضوع على الطاولة الأميركية، فهل من مستجيب؟