عمان - الكاشف نيوز : تحملنا ذاكرة الأيام إلى عقود خلت حيث كان فيها صوت الحسين مدوياً ومعلناً قراراً قومياً وتاريخياً وسيادياً أضاف صفحة ناصعة للتاريخ الأردني العابق بالمجد والحرية.
تعريب قادة الجيش العربي الأردني، محطة مفصلية في حياة الأردن والقوات المسلحة حينما أقدم جلالة المغفور له الملك الحسين على اتخاذ القرار الوطني والقومي الجريء بإعفاء الجنرال كلوب من قيادة الجيش الأردني وتعيين ضابط أردني قائداً للجيش ليكون جيشاً عربياً هاشمياً.
وجاء هذا القرار الذي اتخذه جلالة المغفور له الملك الحسين طيب الله ثراه وهو في أوج عطائه وعز شبابه تجسيداً حياً لكل التطلعات الكبيرة التي كانت تشد بصر وقلب وعقل الملك الشاب، وتمنحه القوة والعزم والتصميم على استكمال تحرير الإرادة الوطنية بالانعتاق النهائي من هيمنة الأجنبي ونفوذه، الامر الذي جعل من قرار التعريب بداية لسلسلة طويلة من التطورات الوطنية الكبيرة التي تشكل في مجموعها الملامح الأساسية لمسيرة الأردن القومية.
ولم يكن اتخاذ قرار تعريب قيادة الجيش بالأمر السهل أو المألوف، فهو قرار يحتاج إلى قائد فذ بطل لا يضع نصب عينيه الا حاضر وطنه ومستقبل شعبه وأمته، فشكل هذا القرار محطة بارزة في نهج ومسيرة تحديث الدولة التي سارت بخطى واسعة متقنه نحو إتمام استقلال المملكة الأردنية الهاشمية وإعطاء جيشها العربي حرية اتخاذ قراره وتأهيل كوادره وشراء سلاحه والتفكير الواقعي بأولويات هذا الجيش وما هو مطلوب منه في المراحل اللاحقة.
طموحات ملك شاب لقد جاء قرار تعريب قيادة الجيش منسجماً وملبياً لطموحات الملك الشاب الذي كان يدور في خلده منذ كان طالباً في كلية ساند هيرست أن الجيش تحت قيادة غير عربية سيبقى دون طموحات قيادته العليا التي تريده أن يؤدي دوره في حماية الوطن وتأهيل ضباطه وتحقيق أهدافه التي وجد من أجلها وصون ممتلكاته ومنع المعتدين أياً كانوا من النيل من سيادته على ترابه الوطني.
يقول جلالة المغفور له في كتاب مهنتي كملك (إن وجود جنرال في بلادنا مذموماً ومطعوناً في شخصه من قبل الكثير من الناس أصبح عاملاً باعثاً على القلق الأكبر، لقد كنا خاضعين للأجنبي فإذا كان كلوب بصفته جنرالاً لا يستطيع أن يؤمن لنا مخزوناً كبيراً من السلاح والذخيرة فهو ليس خليقاً بأن يسخو بنصائحه ومشورته حول التكتيك العسكري الذي نعتمده، انظر ماذا حدث منذ رحيله، لقد ازداد مخزوننا من السلاح بشكل كبير واستمد الجيش العربي الأردني قوة من تطبيق هذه البديهية العسكرية ألا وهي تزويد الجندي بالوسائل الضرورية وبالأسلحة الملائمة ، كانت المشاكل تتراكم على مر الشهور لقد كنت مصمماً على إنشاء جيش قوي متوازن يدعمه غطاء جوي هام، وقد كان تحقيق ذلك مستحيلا، ما دام كلوب بيننا، فكان علي إذن أن أنفصل عنه).
نقطـة اللاعــودة وفي أوائل عام 1956 وصلت علاقات جلالة المغفور له الملك الحسين طيب الله ثراه بكلوب نقطة اللاعودة، فكان الحديث عن استبداله هاجساً متكرراً في فكره حيث اتخذ القرار دون علم أي من المقربين إليه, وقد ذكر أسباب قيامه باتخاذ هذا القرار وإصراره على تنفيذه فوراً في كتاب (مهنتي كملك) حيث قال "يجهل الرأي العام عموماً أن عزل كلوب كان قضية أردنية تماماً، الجنرال الذي كان يرى أن الحياة لا يمكن أن تستمر بدونه في الأردن، لقد كان السبب الرئيسي في عزله يقوم على عدم التفاهم بيننا، وعلى خلافنا حول مسألتين جوهريتين هما: دور الضباط العرب في جيشنا، واستراتيجيتنا الدفاعية فأجد واجباتي كملك هو تحقيق الأمن لشعبي وبلادي، ولو لم أقم باستبداله لما كنت قد مارست أعباء مسؤولياتي.
ويضيف طيب الله ثراه قائل،ً, لقد طلبت مراراً من الإنجليز أن يدربوا مزيداً من الضباط الأردنيين القادرين على الارتقاء إلى الرتب العليا, وكان البريطانيون يتجاهلون مطالبي, كان أعلى منصب يستطيع أن يطمح فيه الأردنيون هو منصب قائد سرية ولا شيء أكثر من ذلك, بعد أشهر من المفاوضات اتسمت بالصبر والأناة استجيب إلى طلبي, وذلك بقبول انكلترا أن تفرض علينا خطة للتعريب يتم بمقتضاها منح الضباط الأردنيين في المستقبل مزيداً من الامتيازات, لقد كانت كلمة المستقبل تعني للإنجليز, وقد أبلغوني بذلك رسمياً, بأن سلاح الهندسة الملكي في الجيش العربي الأردني سوف يتولى قيادته ضابط عربي في عام 1985 وتقول حكومة بريطانيا أنها سوف تتحدث عن التعريب بعد ثلاثين سنة.
1 آذار 1956 وفي الأول من آذار عام 1956 نفذ جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال كقائد أعلى للقوات المسلحة قراره بتعريب قيادة الجيش العربي وتحريره من قيادته الأجنبية وأيقن أنه في الوضع السياسي الجديد الذي أوجده قيام إسرائيل كان لا بد من إعطاء الجيش إحساساً بالمسؤولية والكبرياء ووفقاً لذلك فقد أعفي الفريق كلوب من منصبه وعين ضباط أردنيون في جميع المراكز القيادية ففي الجلسة الطارئة التي طلب رحمه الله من مجلس الوزراء عقدها جاء طلبه لرئيس الوزراء والوزراء بحضور رئيس الديوان الملكي الهاشمي بتنفيذ رغبته بإنهاء خدمات الفريق كلوب وإقصائه عن قيادة الجيش وبأسرع وقت ممكن حيث قال رحمه الله "إنني أحاول اليوم أن أضع شيئاً لأمتي فإما أن أحققه أو أقضي دونه إما أن نعيش شرفاء أو نموت شرفاء فحياة المرء إن كانت مسلوبة الكرامة فلا معنى لها ولا قيمة ولا تستحق أن يتمسك بها ويسجل صفحة جديدة في هذا اليوم فإما حياة حرة أوميتة بشرف".
وقال طيب الله ثراه لمجلس الوزراء "منذ تسلم سلطاتي الدستورية وأنا أحاول أن أصحح الأوضاع قدر المستطاع بشكل يتفق وكرامة الأردن وعزته ولكني لم ألمس أثرا لجميع محاولاتي ولهذا فلم أجد بدا من تنفيذ رغبتي هذه فوراً وهي إنهاء خدمات رئيس الأركان" وجاء ذلك من إيمانه بضرورة استقلال الأردن عن الوصاية والنفوذ الخارجي وكان هذا يعني تعريب الجيش العربي بغض النظر عن الخدمات التي قدمها كلوب والضباط البريطانيون والتي لم ينكرها جلالة المغفور له طيب الله ثراه.
إنهاء خدمة الفريق كلوب وفي الساعة الثانية والنصف ظهراً اتخذ مجلس الوزراء قراره بتنفيذ الرغبة الملكية السامية وحمل السيد بهجت التلهوني رئيس الديوان الملكي القرار الى المغفور له جلالة الملك الحسين طيب الله ثراه فوشحه بالتوقيع السامي حيث نص على ما يلي: - إنهاء خدمة الفريق كلوب من منصب رئاسة أركان الجيش العربي الأردني.
- ترفيع الزعيم راضي عناب لرتبة لواء وتعيينه رئيساً لأركان حرب الجيش العربي الأردني.
- إنهاء خدمات القائم مقام باتريك كوجهل مدير الاستخبارات.
- إنهاء خدمات الزعيم هتن مدير العمليات العسكرية.
وفي يوم الجمعة الثاني من آذار بناء على أوامر جلالة المغفور له الملك الحسين رحمه الله غادر الفريق كلوب الأردن من مطار عمان.
حيث يقول جلالة المغفور له في رده على رسالة رئيس الوزراء البريطاني التي جاء فيها أن الملك يتحمل المسؤولية ونتائج هذا القرار " أنا أقدمت على هذا العمل وأعرف نتائجه وهذا حقي وأنا مارست هذا الحق ولا رجعة فيه مطلقاً وجاء رده رحمه الله رداً حازماً نابعاً من حبه لوطنه وشعبه وقوميته.
وفي الساعة السابعة والنصف نقلت الإذاعة الأردنية من مدينة القدس القرار الذي لم يكن يتوقعه أو يخطر على بال أحد وحمل صوت الأثير صوت الراحل العظيم يزف البشرى للشعب الأردني بنبراته القوية الواضحة .
أيها الضباط والجنود البواسل, أحييكم أينما كنتم وحيثما وجدتم ضباطاً وحرساً وجنوداً وبعد فقد رأينا نفعاً لجيشنا وخدمة لبلدنا ووطننا أن نجري بعضاً من الإجراءات الضرورية في مناصب الجيش, فنفذناها متكلين على الله العلي القدير ومتوخين مصلحة أمتنا وإعلاء كلمتها, وإنني آمل منكم كما هو عهدي بكم النظام والطاعة.
وأنت أيها الشعب الوفي هنيئاً لك جيشك المظفر الذي وهب نفسه في سبيل الوطن ونذر روحه لدفع العاديات عنك مستمداً من تاريخنا, روح التضحية والفداء مترسماً نهج الأُلى في جعل كلمة الله هي العليا إن ينصركم الله فلا غالب لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ووجه جلالة الراحل العظيم بصفته قائداً أعلى للقوات المسلحة اهتمامه ورعايته لبناء الجيش الذي شكله جده الملك المؤسس ليجدد جيش الثورة العربية الكبرى ويجعله قوياً في الإرادة قادراً على تحمل أعباء مسؤولياته الوطنية والقومية الشاملة إعداداً وتدريباً وتسليحا وتأهيله وفق أحدث الأساليب العسكرية وكان رحمه الله عندما أقدم على هذه الخطوة الشجاعة الجريئة يتمثل وصية جده الملك المؤسس المغفور له عبدالله بن الحسين حيث قال له " تذكر يا بني أن أهم شيء في الحياة هو أن يكون لدى المرء العزم والتصميم على العمل وأن يكون مستعداً لأن يعطي خير ما في نفسه على الرغم من العوائق ومهما كانت الصعوبات وعندها فقط تستطيع أن تعيش مطمئن النفس مع الله ومع ضميرك .
الأبعاد العسكرية للقرار لقد كان للقرار أبعاد سياسية وعسكرية كثيرة، ويهمنا أن نناقش بعض الأبعاد العسكرية التي انعكست إيجاباً على الجيش العربي ووحداته وتشكيلاته وعلى إعداده وتجهيزه وقد تمثلت بما يأتي: أ. استكمال القرار السيادي العسكري. حيث شكل إقصاء الجنرال كلوب وتسليم قيادة الجيش إلى ضابط عربي أردني هو اللواء راضي عناب استكمالاً للقرار السيادي العسكري الأردني وبذلك يكون قرار جلالة الملك الحسين بتعريب قيادة الجيش قد استكمل الاستقلال الحقيقي للمملكة الأردنية الهاشمية الذي كان عام 1946، وتلا ذلك إلغاء المعاهدة البريطانية عام 1957 التي كانت تقيد الأردن عسكرياً وسياسياً .
ب. التعاون العسكري. حيث تم عقد اتفاقيات للتعاون العسكري المشترك مع الدول العربية الشقيقة مثل مصر وسوريا والعراق ولبنان والمملكة العربية السعودية وتم تقديم معونة سنوية مقدارها (36) مليون دولار بدلاً من المعونة البريطانية، وذلك بموجب اتفاقية التضامن العربي التي وقعت في مصر في 19 كانون الثاني 1957م .
جـ.إنهاء الوجود العسكري الأجنبي. شكل قرار جلالته بتعريب قيادة الجيش العربي بداية لنهاية النفوذ البريطاني في الأردن وجلاء الوجود العسكري البريطاني عن الأردن نهائياً .
د.المعاهدة البريطانية. بعد توقيع اتفاقية التضامن العربي في القاهرة، تم إلغاء المعاهدة البريطانية عام 1957م والتي كان لها شقان الأول سياسي والثاني عسكري وتمت تسوية كل التفصيلات العسكرية ذات العلاقة بين القوات البريطانية والجيش الأردني .
هـ.الجيش العربي جيش للوطن والأمة. بعد قرار التعريب وحرية القرار العسكري الأردني أصبح الجيش العربي الأردني جيشاً للوطن والأمة ودليل ذلك وقوفه مع الأشقاء العرب في أزماتهم مثل أزمة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، ووقوف الأردن عسكرياً إلى جانب مصر الشقيقة، وكذلك مواقفه إلى جانب الأشقاء العرب في كل بقاع الوطن العربي الكبير في المحن والكوارث التي تعرضوا لها، واستطاع الأردن التعامل مع الأحداث الجسام التي كانت تعصف بالمنطقة وتجاوزها بسلام.
و.تعبئة الموارد البشرية. حيث قام جلالة الملك الحسين بإصدار توجيهاته لتطبيق تجربة فريدة من نوعها عام 1962م بتشكيل معسكرات لطلاب المدارس الثانوية خلال العطل الصيفية بإشراف وزارة الدفاع والتربية والتعليم والداخلية (معسكرات الحسين) وذلك لتدريب الطلاب فيها على الحركات العسكرية واستعمال الأسلحة الخفيفة، وقدمت القوات المسلحة المدربين من الضباط وضباط الصف، وقد اشترك في أول معسكرات أقيمت في 14/6/1962م (3920) طالباً قسموا على (12) معسكراً .
ز.فصل الشرطة والدرك عن الجيش العربي . حيث صدر قانون بفصل الشرطة والدرك عن الجيش العربي اعتباراً من 14 تموز وإنشاء مديرية للأمن العام وجعلها مسؤولة عن رجال الشرطة والدرك وعين الزعيم بهجت طباره مديراً للأمن العام.
ومجمل القول أن قرار تعريب الجيش العربي الذي أتخذه المغفور له الملك الحسين في الأول من آذار 1956 كان قراراً استراتيجياً على المستويين السياسي والعسكري، وكان جريئاً وهاماً على الصعيدين الوطني والقومي وكذلك الدولي، ونابعاً من فكر جلالة الملك الحسين عليه رحمة الله ويهدف إلى النهوض بالأمة وقواتها المسلحة وخدمة قضايا الأمة وقد جنى الجيش العربي ثمار هذا القرار، وتمكن بتوجيهات من جلالة الملك الحسين وإشرافه ومتابعته من الاعتماد على نفسه قبل الوقت الذي حدده الانجليز، وعلى رأسهم الجنرال كلوب بثلاثين عاماً وتبوأت القوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي مكانة عربية ودولية متميزة، وقامت بواجباتها تجاه قضايا أمتها ووطنها, وساندها في تحقيق ذلك رجولة وتضحيات أبنائها وحكمة وشجاعة قيادتها.
على المستوى الدولي.
على المستوى الرسمي في بريطانيا .. جاء ذلك على لسان جيمس لنت في كتابه " الحسين حياة ومسيرة " حيث يقول: " كانت ردة الفعل في بريطانيا على طرد كلوب صاخبة .. وهو ما أدهش الحسين الذي مارس حقاً من حقوقه الدستورية .. فعندما سمع رئيس الوزراء البريطاني انطوني أيدن بالخبر انفعل جداً وأصيب بحالة من الهستيريا .. وصفها فيما بعد هارولد مكميلان .. أحد وزراء ايدن آنذاك بأنها "غير معقولة بالمرة" ويقال أن أيدن انفجر غاضباً وقال: " ولماذا سمح كلوب بحدوث ذلك " وكان كلوب بصفته رئيساً للأركان فوق القانون بشكل أو بآخر ولم يكن طرد كلوب هو الذي أغضب الرأي العام البريطاني بل الطريقة التي تم فيها .
أما الصحافة البريطانية .. فقد أوردت جريدة التايمز الإنجليزية أن إقالة كلوب حدث مشؤوم " لأن كلوب كانت تتجسد فيه السيطرة البريطانية القديمة في الشرق الأوسط وقالت جريدة (ايفننج استاندرد): إن طرد كلوب جاء ذروة من الخزي والذل للسياسة البريطانية في الشرق الأوسط .. أما جريدة (نيوز كرونيكل) فقد كتبت عن هذا الحدث واعتبرته فشلاً نتيجة تجاهل بريطانيا لطموح شعوب الشرق الأوسط.
أما جريدة لوموند الفرنسية فقد جاء في مقال لها تحت عنوان " انهيار آخر عمود من أعمدة الحكمة السبعة " قالت فيه:إن عزل الفريق كلوب من رئاسة أركان حرب الجيش الأردني يدل على انهيار آخر أعمدة الحكمة لبريطانيا في الشرق الأوسط .
وفي الولايات المتحدة قال الرئيس الأمريكي ايزنهاور لجلالة الملك رحمه الله "إنك بطل والبطولة ليست ملك شعبك بل هي للعالم"، وقد جاء في جريدة نيويورك هيرالدتربيون "إن عزل كلوب كان ضربة حاسمة لنفوذ بريطانيا الآخذ في الأفول في دول الشرق الأوسط . وفي الاتحاد السوفيتي وصفت جريدة البرافدا السوفيتية نبأ عزل كلوب بأنه "انتصار كبير للشعب الأردني في نضاله من أجل التحرر من السيطرة الأجنبية". أما جريدة (أزفستيا السوفيتية) فقد كتبت تقول "إن إقدام الأردن على عزل كلوب يعتبر هزيمة هامة منيت بها السياسة البريطانية في الشرق الأوسط وكتبت جريدة الشعب الصينية بأنه بمثابة نصر جديد للأردنيين في نضالهم ضد ميثاق بغداد وإن إقصاء كلوب كان أمراً لا بد منه ليتاح للأردن الدفاع عن سيادته" .
أما على المستوى العربي – فقد جاءت ردود الفعل مؤيدة ومشجعة تحمل الفرح والسرور بقرار الملك الشاب الذي حير العالم كله كما كتبت جريدة الجمهورية المصرية يوم 4 آذار 1956 مقالاً تحت عنوان: " سلمت يداك يا حسين " لقد خفقت قلوب العرب جميعاً لقرارك بالأمس يا حسين الذي بعث القوة في وطن العرب من مشرقه إلى مغربه فليس سراً أن كل عربي كان يتأذى من هذا الوضع الذي يجعل قيادة جيش عربي في يد غير عربي في الوقت الذي نؤمن فيه جميعاً نحن العرب بإخلاص هذا الجيش وثقافته في عروبته ونؤمن أيضاً بكفاءته وغيرته لقد أرضى قرارك يا حسين كبرياء العرب وطموحاتهم وحقق آمالهم وأمانيهم إن خمسة وأربعين مليون عربي يشدون على يديك يا حسين عملاً وقولاً .. فسر على بركة الله أيها الملك وسيؤيدك الله بنصره .
أما جريدة الجنار فقد نشرت في عددها الصادر يوم 6آذار 1956 مقالاً تحت عنوان (حول إقالة كلوب) قالت فيه: اهتزت دنيا العروبة والإسلام لنبأ إقالة الجنرال كلوب رئيس أركان حرب الجيش العربي الأردني وصفقت كثيراً فرحاً وسروراً رغم تخرص المتخرصين وتقول الأفاكين.
لقد فتح قرار التعريب باب سلسلة من الأحداث المهمة جرت بنفس العام وكأن العرب كانوا ينتظرون مثل هذا القرار الجبار بفارغ الصبر منها : 1. في الثاني عشر من آذار 1956 بعث رؤساء دول السعودية ومصر وسوريا رسالة مشتركة إلى جلالة الملك الحسين يؤكدون فيها استعداد دولهم تقديم معونة مادية للأردن بدلاً من المعونة البريطانية.
2. في أوائل شهر نيسان 1956 زار جلالته دمشق تلبية لدعوة من الرئيس شكري القوتلي فاستقبل استقبالاً منقطع النظير في سوريا ، وتضمن البيان المشترك بعد المحادثات إتفاق سوريا والأردن على تنسيق خطط الدفاع والتعاون العسكري بينهما وعلى عدم الانضمام إلى أية أحلاف.
3. قام الرئيس شكري القوتلي بزيارة إلى الأردن في أواخر شهر أيار 1956 رداً على زيارة جلالته صدر على أثرها بيان مشترك جاء فيه: "إقرار اتفاقية عسكرية لمواجهة الخطر الصهيوني ورفع درجة التمثيل الدبلوماسي معها إلى رتبة سفير، وإقرار مبادئ الوحدة الاقتصادية والجمركية بين البلدين.. الخ.
4. قام جلالته بإيفاد البعثات العسكرية إلى جميع البلاد العربية المجاورة سعياً منه إلى عقد اتفاقيات لتوثيق التعاون العسكري بين الأردن وتلك الدول وكانت نتيجة هذه المساعي عقد اتفاقيات عسكرية مع لبنان والعراق، السعودية، مصر.
نتائج تعريب قيادة الجيش العربي.
لقد كان قرار الحسين هذا خطوة على المسار الصحيح لاستقلال الأردن من النفوذ الأجنبي ونقطة تحول هامة في تاريخ العرب الحديث ودافعاً قوياً للأردن للدفاع عن استقلاله وكرامته وحريته .. وقد أتاح هذا القرار للأردن بسط سيادته السياسية على كل إقليم الدولة ومؤسساتها وأعاد الهيبة للجيش والأمة بامتلاك حريتها وصنع قرارها بعيداً عن التهديدات والضغوطات التي كانت تمارس بحقها وأعطى الفرصة لأبناء الوطن لتولي المسؤولية والتدرب على القيادة العسكرية وخلق القادة من أبناء الأردن .
كما أدت خطوة تعريب قيادة الجيش إلى توظيف كافة قدرات الجيش وإمكانياته لخدمة أمن الوطن وصون حقوقه والمحافظة على ترابه ومكتسباته كما مكن القرار صانعه جلالة المغفور له الملك الحسين من بناء مؤسسة عسكرية حديثة امتازت بالانضباط ومشاركة القوات المسلحة- الجيش العربي بالخطط التنموية وبناء الوطن والمشاركة الفاعلة لجيشه في رفد مسيرة البناء والعطاء.
هذا الجيش الذي ساهم في استقرار الكثير من الدول العربية وتمكن من بناء الروابط القوية مع جيوش المنطقة من خلال تبادل الخبرات وفتح مدارس التدريب لكافة الصنوف والمعاهد العسكرية العليا التي أهلت ضباط وأفراد هذا الجيش ليكونوا في الطليعة كما أرادهم الحسين رحمه الله.
واليوم وبعد مضي تسعٍ وخمسين سنة على هذا القرار التاريخي يمضي ملكينا المفدى جلالة الملك عبدالله الثاني على خطى الملك الباني رحمه الله في تأهيل وتدريب وتسليح القوات المسلحة حتى غدت أنموذجاً في المنطقة والعالم ومثالاً بين جيوش العالم في احترافيتها وانضباطها وقوتها، تحمل رسالة الثورة العربية الكبرى، وتدفع العاديات عن وطننا وتضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه المساس بأمنها وأمانها، وسكن هذا الجيش في قلوب الأردنيين وكل أرض حل عليها وارتحل، يرسم الابتسامة على وجوه من شردتهم الكوارث والحروب، وقدموا مواكب الشهداء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من أجل فلسطين، قدسها ومقدساتها وبياراتها التي نطقت أشجار زيتونها تروي قصص الشهداء الأبطال، وها هم اليوم يسجلون للعرب مسلمين ومسيحيين صدق قوميتهم وعروبتهم ورسالة إسلامهم السمحة في التعامل مع الأشقاء الذين ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت من تشريد وتدمير وقتل ودماء تراق وبيوت تتهدم.