أخر الأخبار
عن الزيديّين: مذهب ديني أم حركة سياسيّة
عن الزيديّين: مذهب ديني أم حركة سياسيّة

إن الزيدية وأتباعها كفرقة أو مذهب لم تنل من الاهتمام والانتباه ما تستحقه لمعرفة حقيقتها وتفاصيلها إلا ضمن الإطار الضيّق للنزاعات المذهبيّة المعاصرة ودورها في التحوّلات والتحالفات الدوليّة، ولكنّها في الأساس كغيرها من المذاهب الاسلامية لا علاقة لظهورها بأصل الدين ومبادئه، حيث وإن كان لنشأتها -أي المذاهب- علاقة بالسلطة والنفوذ إلاّ أنّ تثبيتها وانتشارها يعدّ تصوّراً (آمن) لأي جماعة رأت في خروجها عن السائد المألوف نتيجة طبيعية لرفض ما يسود من خلل مجتمعي في البيئة التي ينتمون اليها.
فكان خروج زيد بن علي بن الحسين بن علي بن عبد المطّلب على فساد الدولة الأموية وفشلها في تدارك الخلافات السياسية التي انتشرت في نهاية عهد الخلفاء الراشدين واستشرت إبّان عهدها، خروجاً على الحاكم الظالم، باستنكار التقليد والتبعيّة العمياء على كل مجتهد قادر على استخراج الأحكام من القرآن والسنة، فتبعه من الناس من ضاق بانصراف الولاة إلى الانشغال بصراعات التسيّد الداخلية عن المشكلات الاجتماعية والطبقية الجديدة على الدولة الاسلامية، لتكون بذلك ثورة هدفها معالجة الانحراف السياسي والاجتماعي والاقتصادي القائم آنذاك.
ورغم أن أصول الزيدية وأُسُسِها أوجدت على يد زيد بن علي لتشَكّل مدرسة فكرية ثوريّة لأتباعها، إلاّ أنها تبلورت كمذهب ديني بعد وفاته عام ١٢٢هـ / ٧٣٩ م مما يؤكد أن الزيدية ليست مذهباً منغلقاً على نفسه بل هو نسق مفتوح للتطوير والإثراء ضمن أُطِر ومبادئ عامة أساسيّة تُلَخَّصُ بإمامة زيد بن عليّ، ووجوب الخروج على الحاكم إن جار وظلم، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل لا بالوراثة، وجواز مبايعة إمامين في إقليمين مختلفين. وبالتالي تقنياً من الممكن وصف المذهب الزيدي بفروعه الرئيسية الهادوية والسالمية والجارودية والصالحية بأنه مذهب عملي لا يعترف بالسلبية، ويطلب العمل الإيجابي الفعال لتغيير الواقع، أمّا من الناحية الدينيّة فهو يُعتَبر متوافقاً على الأغلب في الأصول والقواعد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفية الاستنباط مع الحنفية.
ولهذا يُعَدُّ هذا المذهب مزيجاً من مذاهب متعددة في مجالي العقيدة والشريعة معتمداً المنطق والحجّة للوصول للنتيجة والأحكام ويتجلّى ذلك بوضوح في تناوله لأكثر الأمور جدليّة بين المذاهب الاسلامية بالتقائه مع الشيعة بأحقيّة علي بن أبي طالب بالخلافة وفي الوقت ذاته إقراره للسنة بصحة بيعة أبي بكر وعمر وذلك بإعتبار هذه البيعة جاءت نتيجة اجتهاد في أمر هو محلّ اجتهاد، وتفسير سكوت عليّ نفسه على ذلك بأنه تسليمٌ وقبول ضمنيّ لهذه الإمامة. هذه الموضوعية جعلت من التوسّط غير المتعدّي للزيدية سبباً في الاطمئنان إليها لعدم ثبوتها كمصدر تهديد عقائديّ للشيعة أو السنّة وغيرهما من الفرق الإسلاميّة وإن خالفتها في بعض الأمور الأخرى كرفضها لعصمة الأئمة الاثني عشر أو قصر الإمامة ببطني الحسن والحسين وفروق غير ملاحظة أخرى.
وبعكس فشل مشاريع دول عدة لأتباع هذا المذهب قديماً في عددٍ من مدن بلاد فارس و مصر والمغرب إلاّ أنّ حكمهم في اليمن امتدّ أحد عشر قرناً حتى انهيار الدولة اليمنيّة المتوكليّة عام ١٣٨٢ هـ/ ١٩٦٢م، ليصبح تركّزهم في شمال الدولة، وبشكل رئيس في محافظتي صعدة وحجة، إذ يشكّل الزيديين ما نسبته ٣٠٪–٣٥٪ من مجموع سكان اليمن. وبرغم هذا الثقل السكاني الواضح للزيود الذي استمرّ وتنامى حتى حقبة نظام علي عبد الله صالح والذي ينتمي بشخصه هو وأركان حكمه للمذهب نفسه -انتماء تاريخيّ غير فعلي- إلا أن التركيبة الديمغرافية المعقدة للدولة اليمنية والتي تستند إلى أسس قبلية، جعلت من الزيود فئة مهملة غير معترف بها من قبل الحكومة اليمنية والتي وإن اتَّبَعْت سياسة إقصاء سياسي واجتماعي واضحة لهذه الفرقة إلا أنها أبقت عليها، بهدف المحافظة على توازن القوى بينها وبين الجبهة السنيّة الموالية للفكر الوهابي المتمثل بشكل رئيس في الجار السعودي صاحب الأثر اللاّرسمي الراسخ في اليمن. فكان هذا الاختزال المخلّ لمكوّن أساسي من مكوّنات المجتمع اليمني سبباً رئيسيّاً لتحوّل موقف الزيود من موقف دفاع عن هوية خاصة ومعركة تثبيت وجود اجتماعي، إلى اتّباع منهج جديد لنشر أيدولوجيّة سياسيّة تحت مظلّة مذهبية دينيّة، فاستلم زمام هذا التحوّل المتدرّج من العزلة إلى محاولات التمدّد والسيطرة الحوثي بدر الدين، وأولاده من بعده حسين و عبد الملك حيث قاد الأخير أنصاره لخوض ستة حروب مع الجيش اليمني خلال الأعوام ٢٠٠٤م إلى ٢٠١٠م والتي تحوّلت واحدة منها إلى حرب شبه إقليمية عندما امتدت إلى الأراضي السعودية. واللافت هنا هو خروج الحركة الحوثية من كل معركة تخوضها أكثر قوة وتماسكاً، وبنفوذ أكبر، ومساحة على الأرض أوسع من سابقتها، فكسبت الجماعة الكثير من التعاطف من خلال تعريفهم للناس بمظلوميتهم في الحروب المذكورة، تحت راية التكوين السياسيّ الجديد المعرّف لهم (أنصار الله).
وبقيت الرهانات السياسية اليمنيّة الداخلية والنزاعات القبلية هي المتحكمة في ديناميكية الصراعات التي انخرط فيها الحوثيين، وبقيت علاقة الجماعة بإيران وحلفائها محدودة حتى الجولات الأخيرة من حروبهم مع نظام علي عبد الله صالح، حينها بدأ التأثر بحزب الله الشيعي اللبناني في الخطاب السياسي والطرح الإعلامي بالظهور تدريجيًّا إلى أن اتضح تماماً بعد ثورة الإطاحة بصالح عام ٢٠١٢م ، حيث تمكّنت جماعة أنصار الله من بسط نفوذها وتثبيت وجودها بأساليب عدة منها التواجد الاجتماعي الفاعل والقوي، وطرح قضايا سياسية رابحة موجهة ضد أمريكا وإسرائيل، بالإضافة إلى تسليط الضوء على القصور الحكومي في التعامل الشامل مع الجماعة والاعتقاد الخاطئ أن مواجهتها عسكرياً كاف للقضاء عليها.
حتى أنّ مأزق السلطة وأطماعها دفع بالرئيس المخلوع علي عبد الله صالح المعروف ببراغماتيّته المفرطة للتغاضي عن العداء الشامل المتأصّل مع خصومه السابقين وبالتالي خلق مشهد سياسي جديد غريب في الدولة اليمنية، فالتحالف والتفاهمات الراهنة بين صالح وأنصار الله جاءت كنتيجة تماهي أجندة الطرفين وأهدافهما بتركيز العداء السياسي والإعلامي ضدّ حزب التجمُّع اليمني للإصلاح الممثل لحكومة يمن ما بعد الثورة، وتحميله مسؤولية عدم الاستقرار في الدولة وعدم تمكنه من حماية مؤسساتها من التفكك والانهيار، وساعد على ذلك التوافق حقيقة أن الحوثيين ومنذ بداية حركتهم كانوا قادرين على ممارسة حنكة سياسية غير مألوفة عند غيرهم من الجماعات ذات الغطاء الديني في تسويق مشاريعهم الفكرية والسياسية المنادية بالديمقراطية التشاورية.
وفي ظلّ التأجيج الطائفي المتعمَّد في المنطقة والربط المتشنًّج للمذهب الديني الزيديّ بجماعة أنصار الله والتعامل معه كتوجّهٍ دخيل على اليمن، وظّف جماعة أنصار الله تسويق مذهبهم من قِبَل خصومهم كمذهب شيعيّ مرتبط بإيران لاكتساب بُعْد دولي مدعّم بلمسة الدبلوماسية الإيرانيّة التي لا تقطع وتحافظ على شعرة الوصل وتمشي على حافة الهاوية.
وهو نفس البعد الذي استفاد منه الرئيس اليمني المرتدّ عن استقالته عبد ربه هادي منصور في استنجاده بالحكم السعودي ومنه بباقي دول مجلس التعاون الخليجي لإنقاذه من عجزه عن تدبّر حلّ (غير) وسطي يُخرج اليمن من مشهد الانهيار المُقبل. فكانت «عاصفة الحزم» كإجراء عسكري بقيادة سعودية ضدّ الحوثي وجماعته وتحالفاته هي صورة جديدة لتعامل الحكومات العربية مع أزماتها، والذي وإن ظهر كإجراء متعلق بأزمة ذات خصوصية إقليميّة إلاّ أنّ الترقّب الدولي لمآلات هذا الصراع ونتائجه يوشي بالقلق من آثار فشل هذا النموذج الجديد في إدارة أزمات المنطقة.
واستناداً الى كل ما سبق وفي ضوء عوامل الصراع المستمرّ واختلاط النزاعات والولاءات لَزِمَ التصدّي للمحاولات الممنهجة والمكثّفة لتسطيح التاريخ وتوظيفه مشوَّهاً لتأصيل الفوضى المعرفيّة والفعليّة في العالم العربي، باعتبار هذه المعطيات جزءاً لا يتجزأ من أدبيّات لعبة السياسة المعاصرة والخطاب الإعلامي المشوّه.