لميس أندوني
فوجئ الأردنيون قبل فترة أن بلدهم تأتي في المرتبة الثالثة بين الدول المستهدفة بالتجسس الأمريكي على المكالمات الهاتفية والإلكترونية: لكنه وضع ليس بجديد وإن اختلفت الأساليب.
قبل عدة سنوات كنت أبحث في أرشيف وكالة المخابرات الأمريكية العلني،ضمن الملفات المصنفة المسموح بها، على معلومة تخص علاقة واشنطن بإسرائيل، فقررت أن القي نظرة على بعض الملفات عن الأردن، فوجدت ملفات تعود الى الأربعينيات والخمسينيات، وفاجأني ما قرأت بها.
لا أتكلم عن مؤامرات، فملفات كثيرة محظورة، ولم يتم عرضها في المكتبة الخاصة بالوثائق الحكومية في واشنطن، لكن ما قرأت هو عبارة عن تقارير عن شخصيات اردنية و دعوات غداء وعشاء، كان يتكرر بها كلمة “منسف” تم رصدها بالتفصيل الممل.
فصاحب الدعوة وميوله السياسية، كانت مهمة ، والأحاديث التي تتم تُنقَل للتحليل، والأهم محاولة معرفة الاتجاهات السياسية للشخصيات ومنها من كان في أول شبابه حينها، خاصة اذا كانت هناك ميول قومية ويسارية للمدعوين.
ولائم الغداء والعشاء ، بدا لي من الملفات التي وجدتها ، كانت اهم مصدر للمعلومات والتصنيفات السياسية ، التي كانت تعني المخابرات الأمريكية، أهمها الموقف من إسرائيل، والعلاقة مع الاتحاد السوفييتي ، وأحسست وأنا أقرأ أن عمان ضاحية من ضواحي واشنطن.
إذ انني متأكدة أن مدنا أكبر من عمان بكثير، في الولايات المتحدة الأمريكية، لا تعرف عنها أجهزة الاستخبارات الأمريكية بقدر معرفتها عن دولة صغيرة ناشئة في منطقة نائية في الطرف الآخر من العالم، خاصة في منطق تلك الحقبة.
الأوراق تناولت بعض الشخصيات بالاسم لن أذكرها الآن، وان كانت تحت التمحيص، ولم أجد ما يشير إلى إدانتها بأي شيء، اذ أن المقاطع التي توضح مصدر التقارير أو أسماء “المتعاونين” ،سواء بمعرفتهم أو غير معرفتهم، كانت مشطوبة بالحبر الأسود ، ولا يمكن قراءة أي حرف منها.
من طريقة كتابة التقارير كان واضحا ان واشنطن معنية برصد المعارضة وحجمها ،وحتى تعليقات مَن هم داخل النظام لتحديد “الخطر” ، خاصة بعد نشوء إسرائيل وفي أوج الحرب الباردة.
أهداف اميركية ، كشفها بوضح اكثر، عدد من عملاء السي.اي.ايه في تلك المرحلة، مايلز كوبلاند، الجاسوس “الأكبر”، في كتب له، عن التدخل المباشر في الانقلابات العربية، خاصة في سورية والانتخابات اللبنانية في 1958 ، حتى لا تصل الى السلطة قيادات معادية لإسرائيل.
كوبلاند علق لاحقا على السياسة الأمريكية، واعلن هو وبعض من العملاء السابقين، ان ما يكتبونه من تقارير كانت تذهب مباشرة تقريبا الى إسرائيل ، في حين لا تقوم قيادة الس ، اي ، اي في فرجينيا، باطلاعهم على اي تقارير تصل من عملائها في إسرائيل ، بل يتم حجبها عنهم، خوفا من “تأثر العملاء في الدول العربية”، بالرأي العام والتعاطف مع القضية الفلسطينية.
هذا ما حصل لكوبلاند فعلاـ وللآخرين منهم راي ماكفرن، وعدد من “محللي السي. اي”، لأن الوكالة لا تعتمد فقط على جواسيسها، بل على محللين، ذوي خلفية أكاديمية في علم الاجتماع وعلم النفس، عادة يقرأون العربية، و مختصون بتحليل النصوص والمعلومات العلنية – اي المنشورة، والمقابلات التي يجريها هؤلاء أغلب الوقت من دون معرفة هُويتهم.
الأردن بالذات دائما أخذ حيزا كبيرا من الاهتمام، بسبب موقعه المحاذي للدولة الصهيونية ،ولعناية الغرب بدوره “الوظيفي” الذي يتم تكييفه في الاستراتيجية الأمريكية مع المعطيات الجديدة، لكن الجوهر لا يتغير، في ان لا تصبح الأردن خطرا على إسرائيل وفي أن يتم الاعتماد عليها في تنفيذ اهداف امريكا الاقليمية، بالترهيب او الترغيب.
ما يقال ان تركيز واشنطن على الأردن لأنها اصبحت خلال الثمانينيات مركزا لتنظيم المجاهدين في افغانستان هو صحيح، ما جعل الأردن خزنة معلومات عن القاعدة ومشتقاتها ، لكن المفارقة أن كل ذلك تم بمواقفة وتشجيع امريكي كامل.
إذا كان التجسس على تفاصيل الحياة بالأردن بتلك الكثافة بالخمسينيات فكيف الآن ومع تطور التقنيات ،وحتى من دون التجسس على المكالمات الهاتفية، فمواقع الاتصال الاجتماعي، تكون من أهم رصد الاتجاهات المجتمعية السياسية الأردنية: كانوا يدروسننا وما زالوا حتى لا نحيد عن الخط المرسوم.