معن البياري
ليس ما يُحيّرُ في أَمر دولة قطر أَنها دولةٌ صغيرة، تلعب أَدواراً أَكبر من حجمها، كما تثرثر رطاناتٌ معلومةٌ بشأنها منذ سنوات، بل، في أَنها تُنافس الولايات المتحدة وغيرها على استضافة كأس العالم في 2022، فتظفر بما أرادت، ثم ينزعج باراك أوباما، ويطلق تصريحاً منفعلا، قبل أن يضطرَّ إِلى التخفيف منه. هذا نجاحٌ يُربك معلقين من سأل في جريدةٍ لبنانية، عشيّة تنازل الشيخ حمد عن السلطة لنجله الشيخ تميم، عن “قصّة قطر العظمى، ما هي؟”، فساقَ المعروف من أَدوارٍ حضرت فيها قطر، بثقلٍ ونفوذٍ وتأثيرٍ،في غير بلدٍ وملفٍ وأَزمة، فلم يجد غير مطالبَ أَميركية مع بعض الهوامش. وفيما كنّا نشهد مبايعة الشيخ تميم أَميراً، طالعنا لبعضهم أَنَّ القصةَ “ضغوطٌ أَميركية”. ولا أَريحَ للذهن من الذهاب إِلى هذا المطرح في قراءَة الوقائع العربية، ولا مدعاةَ لإجهادِه في التفكير بغير أَميركا عند تحليل هذه الوقائع، سيّما في دولةٍ خليجية، يتذكّر الشطار، من أَهل الهوى السوري إياه، أَنَّ على أَرضِها قاعدة أَميركية مركزية، كانت مقراً قياديّاً في غزو العراق. ولأَنهم مولعون بالمقاومين والممانعين، تزيدُ حيرتُهم، لو تذكّروا أَنَّ حزب الله، والملتحقين به في لبنان، نالوا، برعاية الدوحة، ثلثاً معطلاً أَرادوه مرة، وأَنَّ الأمير السابق زار منزل الشيخ أَحمد ياسين مبكراً في غزة، وأَنَّ دوراً مشهوداً كان لقناة الجزيرة في ميدان التحرير في إِسقاط حسني مبارك، وأَن قطر صوتت إِبان عضويتها في مجلس الأمن ضد مشروع قرارٍ أَميركي يُنذر إِيران بشأن تخصيب اليورانيوم.
كما تُحيّرهم قطر في خياراتِها وحيوية سياستها، وفي محاولتها إِنقاذ سوريا من نظام بشار الأَسد ولو عسكرياً، بعد أَن كانت أَهم أَصدقائه، وفي سرعة مبادراتها، وفي مساهمتها في الإفراج عن ممرضاتٍ بلغارياتٍ في ليبيا، وفي تسوياتٍ سياسيةٍ بين تشاد والسودان، فإنها لا بد أَنْ تُحيّرهم في تخلي أَميرها في عامه الحادي والستين عن السلطة، بسلاسةٍ تُضحكنا على تقارير أَشاعها محبّون لنظام دمشق في جرائد ومواقع إِلكترونيةٍ عن اشتباكاتٍ مسلحةٍ في قصر الأمير جاءَت بالتغيير الجديد. ببساطةٍ، ومن دون لتٍّ وعجنٍ كثيريْن، لا تحتمل قطر العبث والارتجال في أَمرٍ بالغ الحساسية مثل هذا، سيّما وأَنها تنعمُ بعائداتٍ سنويةٍ من الغاز والنفط تبلغ 70 بليون دولار، وأَنَّ عقود توريدها الغاز إِلى أَميركا وأَسواقٍ آسيويةٍ وأوروبية طويلة، وأَنَّ نجاحاتها في تطوير صناعة الغاز أَدهشت العالم. ودولةٌ بهذه الميزة، وأُخرى غيرُها غير قليلة، لا يمكن أَنْ تكون إِدارتُها بغير سلطةٍ مستقرة، واثقةٍ من نفسها، غير معنيةٍ بالنمائم البائسة والمحتارة.
تُبادر قطر، هذه المرة، إِلى مفاجأةٍ ثقيلة، بعد أَنْ هشَّمت القناعة بأنَّ أَدوار الدول وفاعليتها وأَوزانها الإقليمية تعتمد فقط على مساحتها وعدد سكانها، بالنظر إلى تجاربَ وازنةٍ مضت. أَضافت الدوحة تنويعاً مهماً إِلى هذه البديهية المرتجّة، ودلَّلت على أَنَّ في وسع دولةٍ صُغرى محدودة السكان والقدرات العسكرية أَنْ تفعل الكثير خارج حدودِها، سيّما إِذا نعمت بالأَمن والأمان، وباستغلالٍ مدروسٍ لإمكاناتها لإنجاز تنميةٍ واسعةٍ ورفاهيةٍ ماليةٍ ونهضةٍ تعليميةٍ وحرياتٍ إِعلامية، وإِن احتاجت إِلى إِصلاحاتٍ سياسيةٍ. .. حاولت قطر ونجحت، وفاجأَت وأَربكت وحيّرت، ونظن أَنَّ أَميرها الجديد سيُضيفُ إلى ما تراكم قدّامه ما في وسعِه أَنْ يضيف، من دون التفاتٍ إِلى الشطّار والمعلقين الهواة.