وليد شقير
تماماً مثل «جبهة النصرة» في سورية، جرى تكبير حجم الشيخ أحمد الأسير في لبنان، وتم نفخه، وحشوه، وحظي بالاهتمام الإعلامي الواسع، لأن تطرفه يجذب الفضائيات وشاشات التلفزة التي تسابقت على التحدث اليه، لغرابة مظهره ولحيته الطويلة المتدلية التي تُطربُ لها الكاميرا، مثل أي ظاهرة غريبة تهتم بها، بصرف النظر عن جوهرها ومضمونها.
تماماً مثلما فعل النظام السوري بـ «جبهة النصرة»، التي ساهم في إفلات عناصرها الأولى من سجونه بعد أقل من سنة على اندلاع الثورة السورية، الى أن تجمّع هؤلاء ولم يكن عددهم قد بلغ أكثر من 80 عنصراً في إحدى قرى ريف إدلب، بعدما أتاحت الأواني المستطرقة بينهم وبين تنظيم «دولة العراق الإسلامية» في بلاد الرافدين، والذي كان يحظى بالدعم السوري الاستخباراتي، بأن تزداد أعدادهم رويداً رويداً. ورفدتهم خبرات الأعمال العسكرية في العراق، والمال والعتاد، حتى أخذت مشاركتهم في القتال داخل سورية، بالتوازي مع الحملة الإعلامية لمؤيدي النظام عن تنامي «القاعدة» والمتطرفين في صفوف الثوار السوريين بهدف إقناع دول الغرب بأن النظام يحارب الإرهاب وليس معارضين يريدون التغيير والإصلاح وقلب النظام، تتصدر وسائل الإعلام على حساب «الجيش السوري الحر» والمعارضين العلمانيين.
في بداية العام الحالي أبلغ رأس النظام السوري حلفاءه اللبنانيين بوضوح: «نجحنا في جعل القاعدة في واجهة الحرب الدائرة، بحيث باتت دول الغرب مترددة في دعم الثوار».
في لبنان تزامن ظهور الأسير عام 2011، مع حاجة «حزب الله» الى ظواهر في الطائفة السنّية تثبت ان الزعامة ليست معقودة لسعد الحريري فيها بعد ازاحته من رئاسة الحكومة عبر ضغوط استخدمت فيها الوسائل الأمنية مطلع تلك السنة. ولم تبق وسيلة إعلامية مكتوبة أو مرئية من التي تدور في فلك حلفاء سورية والحزب في لبنان إلا وتهافتت على المقابلات الحصرية مع الأسير على رغم انتقاداته اللاذعة لـ «حزب الله» وسلاحه، لأن الهدف كان الإيحاء بأن هذه الظاهرة تسحب البساط من تحت أقدام آل الحريري وأن زعامتهم، بغياب زعيم تيار «المستقبل» عن البلاد، ذاهبة الى حالة ضعف ووهن وتبدُّد، من أجل تبرير استبعاد تياره وصولاً الى الاستخفاف بوجوده وتجاهله، حتى الاستهزاء بمواقفه من جانب قيادة الحزب.
حتى بعض الأجهزة الأمنية التي للحزب تأثير عليها، انفتحت على الأسير، لعلها تشترك في الإفادة من ظاهرته.
لم يأبه الذين أطربتهم الظاهرة والتي لها أشكال شبيهة في مناطق أخرى من لبنان وعلت أصوات رموزها نتيجة تصاعد الحساسية المذهبية وبفعل الاحتقان الذي تسببه هيمنة «حزب الله» على الحياة السياسية اللبنانية، لتصدُّر التطرف على الاعتدال ضمن هذه البيئة. ولم يكترثوا لإفساد قلة متطرفة، صورة أكثرية معتدلة. على العكس تسلحوا بتبرم جزء من جمهور آل الحريري من السياسة المسالمة التي يتبعونها، وانجرار هذا الجزء من الجمهور الى اعتبار الأسير، على غرابته، ناطقاً بما يختلج في مكنونات هذا الجمهور من غضب على الحزب، بل أن مريدي الحزب وإعلامه أخذوا يسقطون على الأكثرية المعتدلة، ما تمارسه الأقلية المتطرفة، فراحوا يتهمون تلك الأكثرية بأنها البيئة الحاضنة للأسير وغيره، ليسوغوا لأنفسهم أخذ المعتدلين بجريرة المتطرفين. تماماً مثلما يبرر النظام في سورية عنفه وإجرامه ضد شعبه، وقوى المعارضة المعتدلة و «الجيش الحر» وتدميره القرى والمدن وارتكابه المجازر واستخدام الكيماوي... بحجة محاربة إرهاب «جبهة النصرة».
خرج الأسير عن السيطرة وعن حدود استخدام تطرفه بخروجه عن المألوف في مخاطبة خصومه وشتم رموز مثل الرئيس نبيه بري والأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله، وبتسلحه مثله مثل أي ظاهرة متطرفة يحركها التعصّب وتجمع من حولها خليطاً من الحاقدين والرعاع، فوجب الانتهاء منه بعد أن أعمت أوهامه بصيرته، فارتكب جريمة الاعتداء على الجيش اللبناني.
وحتى عندما تطلب الأمر التخلص منه، بقي وسيلة وحجة للتعرض لخصوم «حزب الله» السياسيين على اعتدالهم، على رغم أن الأسير كان بلغ في الآونة الأخيرة درجة التحريض على الحريري واتهامه بالخيانة والهرب من المواجهة الى خارج البلاد والمساومة... الخ. فالحزب شارك في القتال ضد الأسير على رغم ان الجيش تولى تصفية تمرده، ليلاحق خصومه الآخرين ويرعبهم ويرهبهم، وهو سيستمر في ذلك بعد إنهاء ظاهرة الأسير، لأسباب لا تتعلق بالأسير.