سبعة وستون عاماً على نكبتنا، نحن شعب فلسطين، قضيناها في بعث ذكريات التهجير والقهر والعدوان والتشرد والتشرذم، شعب اضطر للتنقل من بلد إلى آخر ومن نكبة إلى أخرى، ومن جيل إلى جيل، يظل السؤال حول من يتحمل مسؤولية هذه النكبة التي تبعتها نكبات، تمر السنون دون إجابة، وفي كل عام، يوم الذكرى، نصبّ غضبنا على إسرائيل وأعوانها وأدواتها متملّصين من اتهام أنفسنا كفلسطينيين، جيلاً بعد جيل عن هذه النكبة التي تولّدت بفضل تهربنا من الإجابة، إلى نكبات جديدة.
هذا العام، وككل عام، تفرغ الساسة والإعلاميون والنشطاء، لوضع برامج لإحياء ذكرى النكبة، لا تكاد تختلف عن سابقاتها عن السنوات الماضية، إلاّ في زخمها من حيث النشاط الإبداعي المستثمر للتقنيات الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي، وذلك على حساب الأنشطة الجماهيرية، التي رغم عددها وانتشارها، إلاّ أن ما غاب عنها هو الجمهور نفسه.
ما وحد كل هذه الجهود الغضب الذي انصب على إسرائيل وقيادتها الفاشية منذ تأسيسها حتى اليوم، والمجتمع الدولي الذي ظل شاهد زور على النكبة والنكبات المتتالية، أميركا وبريطانيا وأوروبا، حتى لا ننسى أحداً، وقصة التواطؤ العربي والتآمر، هي قصة تتكرّر كل سنة، كل ذكرى للكارثة.
لكن الكارثة الحقيقية، هي قدرتنا كفلسطينيين على أن نشهد ونتذكر أنصاف الحقائق، قدرتنا على ألا ننسى أنفسنا كضحايا، وكأننا أبرياء من نكبة ما نلبث أن نتذكر أنها صنعت بعيداً عنا، لأجلنا، ولأجل تشردنا وتشرذمنا وانقسامنا وانهزامنا، ومع كل ذكرى نكبة نتذكر، أيضاً، انتصاراتنا التي ننجح في زخرفتها وإخراجها كإنجازات تاريخية، ورغم تصورنا لأنفسنا كضحايا، إلاّ أننا مع ذلك، نمجد انتصارات مشكوكا فيها، ولكن لدينا كل القدرة على تصديق أنفسنا، لا لشيء، إلاّ لأننا نريد ذلك فحسب.
في ظل ذكرى النكبة، هناك نكبات بالكاد نراها، صنعت تاريخنا وحياتنا، ومن حيث الشكل الدال على المضمون، فإن ذكرى النكبة قبل عقدين ـ على سبيل المثال ـ كانت ذات طابع جماهيري بحت، ولم يكن هناك سوى علم واحد يرفع، علم فلسطين، و»حطة» واحدة تلبس كدليل على التمسك بتراثنا وهُويّتنا الوطنية، الأعلام الجديدة المستولدة والتي فرضت على جمهورنا وشبيبتنا وفصائلنا، هي أحد أشكال النكبة المستمرة، بأيدينا في كثير من الأحيان.
ننقسم بين أنفسنا، أحزاباً وقوى ومؤسسات و»شرعيات»، ونلوم المجتمع الدولي، على أنه يتجاهل قضيتنا، نحمله مسؤولية دوره كشاهد زور على قيام دولة إسرائيل على أنقاض وطننا وشعبنا، متجاهلين، إلى أي حد يجب أن نلوم أنفسنا على ما فعلناه بأيدينا بحق قضيتنا وشعبنا ووطننا، ولم نجهد، ولو لمرة واحدة، وبشكل جدّي وفاعل، على تقييم وتقويم تجربتنا، في محاولة لوقف استيلاد نكبة 1948، لنكبات جديدة متوالية، حتى يومنا هذا، وأخشى أن أقول، وإلى المستقبل، قريباً أو بعيداً.
قد يقول البعض، إن الأمر كان خارج إرادتنا، أو ان المؤامرة كانت أكبر منّا، والجواب هو ذاته، لماذا حدث هذا؟!
البعض يتطوع للتهرب من المسؤولية، ويشرح ذلك بالقول، إننا في مواجهة قوة عاتية، ومؤامرة غربية استعمارية، غربية كبيرة، ما كان بإمكان أحد صدها والوقوف في مواجهتها، ولا يكتفي هذا البعض بذلك، ليضيف، ورغم هذا وذاك، إلاّ أن استمرارنا أحياء، نحيي ذكرى النكبة ـ على سبيل المثال ـ هو دليل على أصالة شعبنا، وقدرته على الاستمرار حياً، رغم كل ما جرى، وأنه يجب ـ يضيف هؤلاء ـ ألا نجلد أنفسنا بتحميلها مسؤولية ما جرى ويجري، إن استمرارنا في حمل مشعل القضية، هو دليل على إرادتنا على التمسك بثوابتنا وبقضيتنا التي لن تموت.
إذا ما سألت أحداً من أي بلد هو، ينسى، لوهلة، البلد الذي نزح وهاجر أهله منه، ليشير إلى مواطن سكنه الحالي، ذاكرتنا تم تزييفها بفعل الواقع المتردي، بينما «الإسرائيلي» الذي هاجر ذووه من بلدان كانت بلاده، إذا سألته، فإنه يجيب باسم سكنه الحالي، الذي لا يعرف سواه «وطناً».
الفلسطيني، يسمي لجوءه وطناً، والإسرائيلي يسمي لجوءه وهجرته وطناً، كأنهما في ظل الواقع، مترادفان، عوضاً عن أنهما نقيضان.
الكارثة الحقيقية أن الإسرائيلي بات لا يعرف سوى إسرائيل وطناً له.. هذه هي النكبة!!.