فرض داعش نفسه على جدول اعمال المنطقة كافة، دولها والشعوب وتجاوزت ارتكابات هذا التنظيم الذي لم يُستولد في عملية قيصرية او جاء عن طريق الصدفة، حدود اللامعقول وخصوصاً في شأن القوة الضاربة التي باتت توفرها له ترسانة عسكرية متقدمة وعديد من المتطوعين او المجنّدين، تَتحكّم في خطواتهم وتحركاتهم غرف عمليات سوداء وأخرى ذات أذرع جاسوسية متعددة وممتدة، يبدو ان من يديرونها ليسوا فقط من خريجي كليات الاركان الحربية والاستخبارات التقليدية، وانما ايضاً ودائماً - والشواهد والتسريبات عديدة - يتلقّون - معلومات على مدار الساعة، ولا تُغْلَقُ في وجوههم الهواتف المتصلة بالأقمار الصناعية، بل هم على إطّلاع بكل ما يجري في مسارح العمليات، وكيف تمضي أو تنقلب التحالفات والاصطفافات، وبالتالي يتوفرون على قدرة ومرونة لتغيير خططهم وتحديثها وإعادة تحديد الاهداف والمواقع التي يريدون استهدافها او تلك التي يصرفون النظر عنها ولو مؤقتاً.
هل قلتم ماذا تفعل طائرات التحالف الدولي؟
ثمة مبالغة وتضخيم مقصود على هذا الدور المصطنع الذي أُحيط بهالة من التمجيد والاشادة، بدا وكأن خطة استراتيجية مُحْكَمة، وضعها جهابذة البتناغون والاستخبارات الوطنية الاميركية بأذرعتها الستة عشرة، وعاونها في ذلك الأطالسة والقيادات العسكرية في المنطقة المنكوبة بالارهاب والفساد والقمع والهشاشة والرعب الذي يبثه كل اصحاب المصلحة في تدمير ما تبقى من وشائج وروابط قومية بين عرب هذه المنطقة، الذين باتوا بلا هوية، وربما اصبح وجودهم مهدداً بالمعنى التاريخي والجيوسياسي الذي استقرت عليه المنطقة منذ قرون طويلة (وليس فقط منذ «مأثرة» سايكس بيكو قبل مائة عام)، فاذا بنا الآن امام خرائط ومشروعات اعادة تشكيل وصياغة، وفق أسس جديدة ومستحدثة، لكنها (في البداية والنهاية) تغرف من معين استعماري احلالي، يسعى لفرض هيمنته الشاملة على قرار المنطقة وثرواتها، وفي الاساس تمزيق عرى الروابط القومية والدينية والتاريخية والاجتماعية، لكل من هو ناطق بالعربية، بصرف النظر عن عِرْقِهِ ومذهبه وطائفته ولهذا جيء بـ «المجاهدين» وجمعيات الدعم والتجييش، لاعلان «الجهاد» على الملحدين السوفيات، وكان للعرب اليد الطولى في ايقاظ الغرائز الطائفية والمذهبية وكان التطرف والغلو والوعود بالحُور العِين وجنة عدن، هي الوسيلة لجذب المزيد من الارهابيين الى افغانستان، كي تتخلص الانظمة العربية المأزومة، من مأزقها المُقيم مع شعوبها وفي الان ذاته كي تُبعد الانظار عن ارتكاباتها وفسادها وظنّت لفرط سذاجتها وخضوعها للسيد الابيض الاميركي خصوصا، انها ستكون في مأمن من شرور هؤلاء المجرمين وفظائعهم.
الى اين من هنا؟
ثمة ما هو راهن، ولا يفيد السرد التاريخي إلاّ في التوثيق واستخلاص العبر - ان كان ثمة في بلاد العرب من يُتقن هذه الموهبة او يعرفها أصلاً - والحديث عن داعش يملأ الفضاءات والغرف المغلقة على حد سواء، والخطر لم يعد يتهدد العراق وخصوصا سوريا التي تصدّرت الاخبار، في تمدّد دولة الخلافة واستيلائها على تدمر بعد الرمادي مباشرة، وقبلها نجاح الاتراك ومَنْ حالفهم من العرب في اسقاط إدلب وجسر الشغور، على نحو أثار مخاوف حقيقية على الذين اخترعوها ودفعوا بها لاسقاط النظام السوري، فيما هم اصبحوا في مرمى نيرانها وعلى رأس اولوياتها، إذ كثيرا ما تمرد المُصنّع على صانِعه، والاخطر ان الذين خاضوا تجربة طفل الانابيب الاول (المجاهدون ثم لاحقاً القاعدة)، لم يتّعِظوا ولم يأخذوا بأسباب الحيطة والحذر، بل واصلوا غرورهم وصلفهم، الى أن وصلت سيوف داعش الى رقابهم.
اللافت هو انهم ما زالوا حتى اللحظة، ليس فقط يراهنون على داعش، بل ولفرط خوفهم ورعبهم، بدوا وكأنهم يتحدثون عن اشباح او مخلوقات فضائية هبطت من الكواكب الأخرى، ما يعني انهم يواصلون دفن رؤوسهم في الرمال، ويستبد بهم كابوس او وهم اسقاط النظام السوري، بما هو الهدف الاول على اجندتهم البالية، والتي اثبتت عقم تفكيرهم وحجم حقدهم والعقد الكثيرة التي تقف خلف كل سلوكهم الاجرامي، سواء كان هؤلاء في واشنطن التي تحارب بالمال والدم العربي، ام عرب اليوم الذين ظنوا انهم يوشكون على الخروج من مأزقهم التاريخي في دولهم الهشة والمفخخة اجتماعياً وسياسياً وخدماتياً، وخصوصاً المنهارة اقتصادياً، فإذا بهم في تيه طويل لا يعرفون الخروج منه او امتلاك أبسط وسائل البقاء. لهذا سيُجبرون على دفع ثمن ما ارتكبت أيديهم وأجهزتهم.