ردود الفعل والتحذيرات الروسية الغاضبة تجاه ما سربته وسائل إعلام اميركية – قريبة كالعادة من دوائر صنع القرار – حول نية واشنطن نشر صواريخ باليستية في اوروبا، تشي بان العالم مقبل على مرحلة من التوتر يصعب التكهن بالمدى الذي ستصل اليه، وبخاصة في ظل وجود بؤر توتر وحروب اقليمية واخرى أهلية منخرطة فيها واشنطن بشكل خاص، فيما موسكو ليست بعيدة هي الاخرى عن تلك الساحات وإن كانت تتوخى (موسكو) الحرص على إقلاق الاميركيين والتضييق عليهم وارباكهم وتدفيعهم ثمن سياساتهم العدائية تجاهها وعلى وجه الخصوص بعد الازمة الاوكرانية وتَصدّر الولايات المتحدة المعسكر الغربي في فرض عقوبات اقتصادية صعبة على روسيا، اسهمت في خلق مصاعب جدية للاقتصاد الروسي وايضا في تشديد طوق العزلة السياسية والدبلوماسية عليها، ولم يكن استبعادها من عضوية مجموعة «G8» سوى إحدى تجليات هذه العزلة، بل يمكن ملاحظة ان القمة السنوية لهذه المجموعة التي عادت الى اسمها القديم «G7» قد استخدم منصة اميركية (وغربية الى حد ما وان في شكل اقل عدائية وكيداً من الاميركان) للغمز من قناة روسيا وتهديدها والدعوة الى تشديد العقوبات عليها على نحو فاحت من تصريحات اوباما في قمة «G7» التي انتهت للتو في جبال الألب البافارية الالمانية، الكراهية والعداء لروسيا، التي برزت في وصف اوباما سياسة روسيا تجاه الأزمة الاوكرانية بأنها «عدوانية» ما يستلزم فرض المزيد من العقوبات عليها.
وهناك من تطرق اكثر كرئيس الوزراء الكندي ستيفن هاربر – التابع المطيع لواشنطن وتل ابيب كما يجب التنويه – الذي قال ان بلاده «تُعارض تماماً عودة انضمام روسيا الى مجموعة «السبعة» من جديد، في ظل سلطة بوتين» بل هو مضى قدماً للقول: ان روسيا «فقدت عضويتها» في مجموعة دول السبع قبل اندلاع الازمة في اوكرانيا بكثير.
ولان روسيا ربما لم تعد تملك الحماسة ذاتها عندما انضمت الى هذه المجموعة كي يصبح اسمها G8، بعد ثلاث سنوات من العقوبات الاقتصادية، ويممّت وجهها نحو تجمعات اقليمية ودولية بديلة بل ومُنافِسة مثل «بريكس» و»منظمة شنغهاي» التي تستعد لاستضافتهما الشهر المقبل، فإن الازمة الطارئة التي تلوح في الافق، تأخذ طابعاً اكثر خطورة مما حدث حتى الان في تداعيات وأكلاف الازمة الاوكرانية’, حيث يدور الحديث عن تهديدات باعادة نشر صواريخ باليستية في اوروبا, ما اثار حفيظة بل غضب موسكو، التي رد مسؤولوها بعنف وتحذير غير مسبوقين, إن لجهة تهافت اسباب «الضجة» التي تثيرها واشنطن ازاء ما وصفته الادارة الاميركية بـ»الانتهاكات الروسية».. وهي تهدف – على ما قال نائب وزير الدفاع الروسي اناتولي انطونوف – الحصول على مبرر لخطواتها العسكرية التي تروم تعزيز الزعامة الاميركية في مواجهة ما تسميه الخطر العسكري الروسي, أم في التحذير شديد اللهجة الذي اصدرته وزارة الدفاع الروسية «من العواقب الخطيرة جداً على الأمن والاستقرار الدوليين، جراء سير واشنطن في هذا الخط تجاه اتفاقية الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى».
الحديث يدور اذاً، حول مدى التزام الطرفين «الروسي والاميركي» ببنود اتفاقية العام 1987 التي قضت باتلاف الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى وهو أمر تم التحقق منه بالفعل بعد اربع سنوات من ذلك التاريخ (1991) الا أن انعدام الثقة والشكوك المُتبادَلة بينهما اسهمت في تعميق الهوّة وتبادل الاتهامات, على نحو قالت فيه واشنطن: ان موسكو اجرت تجارب جديدة على هذه الانواع من الصواريخ الباليستية, فيما ردت الاخيرة بأن الاميركيين متورطون في برامج من هذا النوع وخصوصاً تلك المتمثلة في أجيال جديدة من «الدرع الصاروخية» التي نَصَبَتْ بعضاً من اجزائها في اوروبا الشرقية وأقامت أجزاء اخرى في تركيا, ناهيك عما تحمله الطائرات بدون طيار من اسلحة وصواريخ مشابهة لتلك الواردة في معاهدة العام 1987.
فهل نحن أمام حرب باردة اخرى، مترافقة مع سباق تسلّح جديد؟
من السذاجة الاعتقاد، اصلاً بأن الحرب الباردة قد تم دفنها على نحو نهائي، وما العسكرة الاميركية للعلاقات الدولية وتلك النزعة العدوانية للتدخل في شؤون الاخرين واسقاط الانظمة المعارضة للسياسات الاميركية, فضلاً عما احدثه المحافظون الجدد في بُنية ومبادئ النظام الدولي طوال العقدين الماضيين اللذين تليا سقوط الاتحاد السوفيات، وبروز بوريس يلتسين سيئ السمعة والصيت في المشهد الروسي المنفلت سياسياً واقتصادياً وأمنياً, إضافة الى الهجمة الاميركية الشرسة بل المتوحشة لـِ(أطلسة) اوروبا الشرقية وحصار روسيا وتحجيمها, على نحو تغدو فيه مجرد دولة عادية، سوى دليل على انها لم تنته فعلياً.
أما سباق التسلّح، فهو موجود ولم يتوقف، بدليل مبيعات الاسلحة الضخمة التي تقوم بها الولايات المتحدة كذلك روسيا (في المرتبة الثانية), أما حكاية تعزيز القدرات العسكرية وتحديثها كماً ونوعاً، فهو أمر معلن ومفتوح في معارض السلاح والصناعات العسكرية, ولكن بلا دوافع ايديولوجية (وهذا ما يربك الرأسمالية ويعرقل عدوانيتها الى حد ما) فضلاً عن استناده الى نوازع قومية واخرى لها علاقة بالسيادة الوطنية والكرامة ورفض العدوان والتوسع والعدوانية والغطرسة الامبريالية المنفلتة من عقالها على أكثر من صعيد.