وليد شقير
في انتظار أن يأخذ التغيير الذي تشهده مصر مداه، وأن يرسو على معادلة في الأشهر المقبلة، فإن مراقبة الدينامية النموذجية لحراك المجتمع المصري تشي بأنه لا بد من أن تفضي الى خلط أوراق على الصعيد الإقليمي، يغيّر في الخريطة السياسية لدول الربيع العربي.
لم يكن منتظراً أن تستقر الثورات العربية منذ اندلاعها نهاية 2010، على معادلة واضحة فور التغيير في السلطة. فالانتقال من الأنظمة الاستبدادية كان محفوفاً بالصعوبات والثغرات، بعد عقود من مصادرة الإرادة الشعبية ومن تدجين الحياة السياسية في كل من الدول المعنية بالانتفاض على التخلف والتهميش والقمع والإذلال ونهب الثروات وترويض المؤسسات، إذ لم يترك المستبدون شيئاً من هذه المؤسسات. وكان لا بد لأطياف المجتمعات التي شكلت وقوداً لهذه الثورات من أن تمر بمخاض عسير، قد يمتد حقبة أخرى، وفق دروس التاريخ، فالثورات لا تنجح في تحقيق أهدافها وفرز البدائل في لمحة بصر، لا سيما في دول ترك المستبدون فيها بنى سياسية متخلفة خاضعة لإرادة فرد، أو قلة تعتمد الأساليب المافيوية. وكان لا بد لهذا التخلف من أن يمتد الى البنى السياسية المعترضة والثائرة أيضاً، والتي كانت قاصرة هي الأخرى عن إدارة عملية التصحيح والتغيير، والانتقال الى الحداثة في توزيع الثروة وتحقيق المشاركة ثم التنمية.
لم يكن الإخوان المسلمون في مصر وحدهم الذين أثبتوا فشلهم في الانتقال الى نظام جديد، بل إن أقرانهم في تونس والمغرب، وأشباههم في ليبيا لم يكونوا أحسن حالاً، مع أن لكل من هذه الدول ديناميتها الداخلية. حتى أن «الإخوان» السوريين، وهم ما زالوا في موقع المعارضة والصراع مع النظام، وقعوا مع غيرهم في لعبة الاستئثار والتناحر التي كانت من الأسباب الكثيرة التي أخرت التغيير في بلاد الشام. أما في اليمن فإن للعبة قواعد أخرى.
لمصر آليات مختلفة لأنها تكاد تكون الوحيدة التي فيها دولة ومؤسسات، تنتظم فيها القوى الاجتماعية المختلفة، وتسمح عراقتها، بصرف النظر عن سرعة استجابتها للحراك الشعبي، بأن تستوعب ما يستجد في المزاج الشعبي.
وإلا ما معنى حصول التغيير الذي نشهده اليوم بفعل تحالف وتعاون المؤسسة العسكرية مع مؤسسة القضاء والمؤسسة الدينية والمؤسسة الثقافية والمؤسسات الحزبية في التجاوب مع الاعتراض الشعبي المليوني على فشل حكم «الإخوان» في الإجابة عن أي من مشاكل مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بعد الفرصة التي أعطيت لهم للمحاولة، من دون جدوى؟
ومع تدافع الأسئلة عن قادم الأيام في مصر، حول مدى مناعة الحراك القائم إزاء احتمالات اندلاع العنف، وحول مدى قدرة القوى السياسية والشبابية التي أثبتت قدرتها على اجتذاب الملايين الى الميادين، في إيصال صوتها الى الريف حيث لـ «الإخوان» نفوذ، فإن المرحلة الجديدة من التغيير في أرض الكنانة، لا بد من أن تخلط الأوراق على الصعيد الإقليمي لسبب بسيط، فاستقرار المعادلة فيها لا بد من أن يعيد الى القاهرة ثقلها في رسم سياسات العالم العربي. ومتى بقيت مصر ضعيفة في الداخل غارقة في مشاكلها بقي دورها الخارجي ضامراً ومتراجعاً، قياساً الى أدوار القوى الإقليمية الأخرى وتحديداً تركيا وإيران وإسرائيل. وقد تستغرق استعادتها لهذا الدور بعض الوقت لاستمرار انشغالها بترتيب أوضاعها الداخلية لجهة ضمان مشاركة «الإخوان» في العملية السياسية الجديدة، ولجهة إثبات حراك الميادين المبهر قدرته على فرز قيادة واضحة تتجاوز الشرذمة التي تسببت بفشله في الانتخابات العامة والرئاسية قبل أكثر من سنة. إلا أن تأثير التغيير الحاصل لا بد من أن ينعكس على سائر دول الربيع العربي لأنه أمثولة بأن صعود الإسلاميين في هذه الدول ليس قدرها المحتوم، كما حاولت دول في الغرب والشرق أن تقنع نفسها، وبعض الأقليات الخائفة، والشعوب العربية، بأنه كذلك.
وعلى الأرجح، لن يغتبط الرئيس السوري بشار الأسد ويفرح طويلاً لـ «هزيمة الإسلام السياسي» كما جاء في تعليقه أمس على الحدث المصري. فهل يعقل أن يتصرف الرئيس السوري كشريك سياسي للذين أسقطوا هذا النهج في مصر، هو الذي اختصر المؤسسة العسكرية والأمنية السورية بشخصه وبعائلته، والذي أخضع المؤسسة الدينية والأقليات بالتخويف وألّب أهل المدن على الريف وأباح كل أشكال الدعم الخارجي لنظامه في حرب الإبادة التي يشنها على شعبه ودمّر البنى التحتية السورية للاحتفاظ بالسلطة ففاق عدد القتلى السوريين المئة ألف، فيما لم يقفز عدد قتلى المواجهات في مصر خلال الأيام الخمسة الماضية من المواجهات عن عدد أصابع اليدين، ولم يتجاوزوا بضع مئات في ثورة 25 يناير قبل سنتين ونصف السنة؟
في مصر سمح الناس للإسلام السياسي بأن يخوض التجربة ثم حاسبته الميادين على فشله. في سورية قُصفت الميادين وارتكبت المجازر في من يرتادونها باسم الوقوف ضد الإسلام السياسي.