رضوان السيد
يخشى الأميركيون من الشعبويات، أكثر مما يخشون من العسكر. ولذلك ففي الموجة الأولى من الاضطراب في العالم العربي على أثر نكبة فلسطين، قدموا العسكر على الأحزاب الوطنية الديمقراطية (أحزاب الاستقلال)، وعلى الأحزاب الإسلامية الناشئة وقتها في بعض البلدان («الإخوان المسلمين» ومتفرعاتهم بمصر وسوريا والأردن واليمن). أما في المرحلة الحالية، وبعد صراعهم مع «القاعدة» ومتفرعاتها، وذهاب زمن العسكر يسارا ويمينا؛ فإنهم آثروا التهادن إن لم يكن التحالف مع «الإخوان المسلمين»، لثلاثة أسباب: قيام «الإخوان» بديلا قويا للتطرف المنطلق والجهاديات، والحفاظ على مؤسسات الدولة، وعدم الإخلال بالوضع القائم مع إسرائيل.
وبعد قرابة العامين من بروز «الإخوان» ومتفرعاتهم في مصر وتونس والمغرب واليمن وليبيا والأردن وسوريا، ليس من الممكن إصدار حكم على التجربة مع «الإخوان» (من جانب الأميركيين بالطبع!) باستثناء مصر، لأنهم انفردوا بالسيطرة فيها دونما عقبات جدية تقريبا، وبمساعدات أميركية وعربية قوية وظاهرة، وعدم الملاحظة عليهم أو إعاقتهم حتى عندما اندفعوا باتجاه إيران وروسيا، ورفضوا سياسات الجامعة العربية تجاه الأزمة والحرب في سوريا!.. بل إن الأميركيين نصحوهم وحاولوا مساعدتهم مرارا في أمرين مهمين: طرائق التعامل مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وطرائق التعامل مع المعارضة الداخلية. فقد نصحهم جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، قبل أشهر بتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة محمد البرادعي أو عمرو موسى. وذكر أمامي أحد «الإخوان» الذين كانوا يؤيدون وجهة نظر كيري أن مكتب الإرشاد عارض ذلك بنصيحة عربية وأخرى تركية. لكن أحمد داود أوغلو نفى ذلك بشدة، وقال إن أردوغان نصحهم بعدم شيطنة الخصوم، والدخول في العقائديات، شأن ما فعله سلفه نجم الدين أربكان، وأدى إلى اصطدامه بالعسكر!
لنعد إلى «الإخوان» وعهودهم مع الأميركان وماذا نفذوا منها. ففي ما يتصل بإسرائيل عهدوا إلى المخابرات المصرية (وهي ذات خبرة طويلة في الملف الحماسي - الإسرائيلي) بالاستمرار، وشجعوا حماس على التهدئة، وأوصلوا إلى اتفاقات عملية بين الطرفين الإسرائيلي والحماسي. وظهر الرئيس مرسي على غلاف مجلة «تايم» باعتباره رجل السلام في المنطقة، بعد أن منعت وساطته تطور التقاصف بين غزة وإسرائيل إلى حرب تُشبه حرب عام 2008 - 2009. ولذا لا يمكن اتهام «إخوان مصر» خلال السنتين الماضيتين بأنهم أرادوا تحرير فلسطين، كما كانوا يزعمون عندما كانوا في المعارضة. إنما علينا لكي نقدر الأمر حقَّ قدْره أن نتنبه لتغير مواقف ومواقع حماس بعد خروجها من سوريا (ومن إيران!). فالظاهر أن الطرفين هذين هما اللذان كانا يثيران الحرب انطلاقا من غزة أو لبنان أو يوقفانها، تبعا لتطور مصالحهما مع الولايات المتحدة. ولا يزال لإيران عناصر في غزة ضمن حماس، وضمن التنظيمات الجهادية الأخرى. والأسبوع الماضي منع وزير داخلية حماس وزير الخارجية محمود الزهار من السفر إلى الخارج لأنه كان ذاهبا إلى إيران! ما حصل «الاختلال» إذن في غزة، لكنّ الاختلال وجهادياته حصل في سيناء ولا يزال. ومنذ قيام الثورة وقيام حكم «الإخوان» سقط عشرات رجالات الجيش والشرطة بأيدي مسلحين قادمين من غزة أو السودان أو داخل مصر أو متوطنين بسيناء. وقد شكا من ذلك المصريون بالطبع والأميركيون. وما استطاعت السلطة المصرية الجديدة أن تفعل شيئا رغم بشاشتها مع السودان ومع إيران ومع حماس المسيطرة بغزة. وقبل أيامٍ قُتل عميدٌ بالجيش المصري، كان يتفقد مراكز الجيش أو الشرطة بسيناء، فاقبل الجيش من جديد على سدّ بعض الأنفاق مع غزة كما يفعل بعد كل حادثة، فتصاعدت شكاوى الحماسيين من جديد!
لكنْ لنعد إلى المسألتين الثانية والثالثة. في المسألة الأولى بذل الإخوان جهدا كبيرا حتى لا يحدث اضطرابٌ على الحدود مع إسرائيل بما في ذلك تصدير الغاز. بل ويمكن القول إنهم بذلوا جهودا أيضا في الملفّ الثاني: ملفّ المتشددين الإسلاميين. فقد استتبعوا الأحزاب السلفية، ثم أقبلوا على تفتيتها. وهم في المشكلات التي أثاروها مع السلفيين اتهموا بعضهم بالجهادية، والبعض الآخر بضيق الأُفُق! وكانت السفيرة الأميركية بالقاهرة، بعد كلّ أزمةٍ مع السلفيين أو مع المعارضة المدنية تزور مُرسي أو مكتب الإرشاد أو عصام الحداد أو خيرت الشاطر، لتدافع عن شرعية الرئيس وتوجُّهات الإخوان الديمقراطية! ولذا فإن ما ينبغي التفصيلُ فيه هو الملفّ الثالث: ملفّ مؤسسات الدولة، والتعامُل مع القوى السياسية، والقضاء، والإعلام.. والشرطة والجيش المصري. وفي كلّ هذه الجهات سادت حالاتٌ من الاختلال، ومحاولات الاستيلاء أو الإسكات. فقد غيّرت الرئاسة وزير الداخلية ثلاث مرات، وظلت تشكو من أن جهاز الأمن الداخلي لا يعمل إلا لمصلحة الفلول. أما الجيش فقد سادت حالةٌ من النفور بينه وبين «الإخوان»، لأنهم ما استطاعوا التأثير في قراره وتشكيلاته، رغم كثرة اجتماعات الرئيس بوزير الدفاع قائد الجيش، وبمجلس الأمن الوطني، وتغييره مدير المخابرات العامة مرتين. وظهرت أصوات إخوانية عدة مرات تندّد بالجيش واستعصاءاته على السلطة الشرعية. وهذا في الوقت الذي كانت فيه الرئاسة تصادم القضاء والإعلام الخاص علنا، وتجلب رجالاتها إليهما أو تحاول. ويوم الثلاثاء الماضي أصدرت محكمة النقض حكما بعدم شرعية تعيين النائب العام، وإعادة القديم. وهناك تعيينات في النيابات العامة تتجاوز الألفين. وتعيينات في الوظائف الإدارية الكبرى بالدولة تتجاوز الألف، بما في ذلك تعيينات الدفعة الأخيرة من المحافظين، وأكثرهم من حزبيي الإخوان. وهذا كله دون أن تكونَ هناك سياساتٌ ماليةٌ أو اقتصاديةٌ ناجحة أو مبادرات معقولة في السياسة (تجاه المعارضة أو المعارضات)، وفي الشؤون التنموية، باستثناء بعض الصفقات تحت الطاولة مع كبار رجال الأعمال من «الفلول»!
هل كان على القوى السياسية المعارضة (في جبهة الإنقاذ الوطني) أن تصبر وتنتظر فرصةً أفضل؟ لقد فعلت ذلك بالفعل. ومارست معارضة تقليدية، وقبلت حوارا بالحدّ الأدنى على المسائل الأساسية مثل الدستور وقانون الانتخابات وحكومة الوحدة الوطنية. وقد وعد الرئيس محمد مرسي في كل مرة بالنظر والمراجعة، لكنه لم يفعل. وما «تمردت» المعارضة التقليدية هذه، ولا تخلَّى الأميركيون؛ بل إن الشباب الذين قام بعضهم بالثورة هم الذين خرجوا في حركة «تمرد»، وهي نزوع شبابي مبتكر جمع 22 مليون توقيع لسحب الشرعية عن الرئيس. وفي الساحات والميادين الآن منهم ما يزيد على العشرين مليونا. والواضح أن الجيش (وهو القوة المنظمة الوحيدة خارج الإخوان) هو مع الشباب، كما يدلُّ على ذلك بيانه، وخروج «المجتمع العسكري» مع المتظاهرين والمعتصمين.
وإلى ظاهرة الشباب المصري المحتشد للمرة الثانية خلال سنتين، لا ينبغي الاستخفاف بالقدرات التنظيمية للإخوان. وهؤلاء لا يحسنون القيام بتنازلاتٍ سياسية في الأزمات، بل يعودون إلى عقلية «التنظيم السري». ويزيدهم إصرارا أن لديهم الآن ما يفقدونه. فهم يعتبرون صراعهم الآن صراعا على السلطة «مع الدولة العميقة» التي أرادوا تصفيتها خلال عامٍ واحد. وهي تشمل الجيش والأمن والقضاء والإعلام والجهاز الإداري والأزهر والبابوية القبطية. – ويضاف لذلك ثلاثون مليون شاب!
من ينجح؟ لن يسقط الإخوان بالضربة القاضية. لكنهم في هذه العملية الزاخرة سيعودون إلى حجمهم الطبيعي، فتتضاءل ظاهرة الإسلام السياسي، وتستعيد الثورات العربية طابعها المدني الذي انطلقت منه: فالإسلام السني لا يقبل الدولة الدينية ولا حكم الأئمة والمرشدين!