أظهر الكويتيون رباطة جأش عالية في التصدي لأهداف العدوان الإرهابي الذي تعرض لهم بلدهم... توحد الموقفان الرسمي والشعبي في فضح مرامي العمل الإرهابي، لم ينخرطوا في جدل عقيم كذاك الذي طالما شهدناها في دول منكوبة بهذه الآفة، لم يخرج أحدٌ لسانه شماتة ... هتفوا جميعاً «كويتيون سنّة وشيعة... هذا الوطن ما نبيعه». العمل الإجرامي ضد الكويت كان يهدف من ضمن ما يهدف، إلى إحداث الوقيعة وإيقاع الفتنة في صفوف الكويتيين ... ردة فعل الكويتيين على الجريمة أعطت نتائج عكسية تماماً، أقله كما تبدى من ردة الفعل الأولى ... توحد الكويتيون أكثر من أي وقت مضى ... رأينا الأمير والحكومة والنواب والمواطنين يصرخون في وجه المعتدي بصوت واحد ... هذا النمط من ردات الفعل العفوية المتناغمة، تذكرنا بتوحد الأردنيين في وجه جريمة حرق الطيار الشهيد معاذ الكساسبة، أو في انطلاقتهم العفوية للهتاف بصوت واحد رداً على جريمة الفنادق الثلاثة ... في اللحظات الدامية من هذا النوع، يتفوق الناس على أنفسهم، ويخرجون أروع ما في دواخلهم. تتكشف ردة الفعل الكويتية عن جملة حقائق وتظهّرها ... الأولى، أن مناخ الحريات والديمقراطية النسبية التي تعيشها هذه الدولة الخليجية منذ عقود متراكمة من السنين، سمحت بخلق وعي متقدم لدى الكافة، وعززت انصهار الكويتيون وتوحدهم حول كيانهم، وفي ظني أن الغزو العراقي للكويت، نجح في توليد «هوية وطنية جماعة وجمعية» للكويتيين، الذين استيقظوا ذات صباح، فوجودا أنفسهم «عراقيين» ومحافظة ملحقة بالدولة الجارة. الثانية، أن الكويت (والبحرين) من أكثر دول الخليج التي شهدت مبكراً على نشوء حركات سياسية واجتماعية وعمالية ... الكويت سمحت لهذه الحركات مبكراً أن تعمل في العلن، بخلاف البحرين التي لم تنجح برغم سنوات الإنفراج الأخيرة، في تطبيع العلاقات بين الحكم والمعارضات المختلفة ... في الكويت حركة قوميين عرب تاريخية، قادها أحد مؤسسي الحركة في بيروت الدكتور أحمد الخطيب، وفي الكويت تيارات ليبرالية قوية، وأخرى إخوانية وسلفية وشيعية... صحيح أنها ليست منتظمة في احزاب سياسية، لكن الصحيح أن لها حضور الأحزاب وتشكيلاتها والأهم «ديوانياتها» ... هذا الوعي المبكر، سيساعد الكويت والكويتيين على مواجهة تحدي الغلو والإرهاب صفاً واحداً. والثالثة، وتتصل بالعلاقة بين الحكم والمعارضة، أو على نحو أوسع، الحكم والمواطنين ... فالبلد مقتدر اقتصادياً، وثمة نظام رعائي للمواطنين على أقل تقدير، وثمة مستوى من «العدالة الاجتماعية» تسمح للفقراء بطرق أبواب الحكم للاستحصال على الحد الأدنى للعيش الكريم، هذا أمر شديد الأهمية، فالإحساس بالغبن والتهميش هو أقصر الطرق صوب «داعش» وأخواتها... ولولا «ثغرة» البدون، لكان الوضع في الكويت الأفضل قياساً بالعديد من الدول المنطقة العربية والخليجية. والرابعة: أن النظام في الكويت، ليس من الطراز الدموي، فلا السجون تغلق أبوابها على قادة الرأي الآخر ونشطاء المجتمع المدني، ولا الدماء تراق في الشوارع بعد كل مظاهرة أو انتخابات، ولأن النظام كذلك، فمن الطبيعي أن ينتج معارضة على صورته وطرازه، فرأينا أشد السلفيين تطرفاً وتشجناً يدعون للجهاد في العراق وسوريا أو يهجرون بلدهم إلى ساحات الجهاد العالمي النائية، ولم يتجرأ أكثرهم غلواً على «الإفتاء» بضرورة الجهاد في الكويت ... حتى أن منفذ الجريمة البشعة في مسجد الإمام الصادق، سعودي جاء لتوه للقيام بفعلته. ليست الكويت بلداً ديمقراطياً بالمعايير المتعارف عليها للديمقراطية، وهي المعايير ذاتها، التي تمنعنا من تصنيف بلادنا (الأردن) بأنها ديمقراطية كذلك ... لكن الكويت من الدول العربية القليلة، إلى جانب الأردن والمغرب، التي تبدو مرشحة لانتقال سلمي وتدريجي نحو ضفاف الملكيات الدستورية ... وبوجود برلمان قوي وديوانيات مؤثرة وجمعيات وتشكيلات متنوعة، بوجود إعلام حر ومستقل نسبياً، تبدو الكويت مرشحة لاجتياز محنة «الربيع العربي» بأقل قدر من الخسائر. هذه الصورة لا ترضي جماعات «الفوضى الخلاقة»، ولا ترضي أصحاب مشاريع «الجهاد العالمي»، الذين لا ينتعشون إلا في الخرائب ولا يجدون مطرحاً لأنفسهم إلا على أنقاض الدول والمجتمعات ... الكويت امام الامتحان الأصعب، في بلد متنوع مذهبياً ... المؤشرات الأولى ترجح احتمالات النجاح والانتصار في المواجهة ... والمأمول ألا تفضي الجريمة النكراء إلى الانتكاس عن هوامش الحرية والديمقراطية والتعددية في البلاد ... المأمول أن تدفع الجريمة إلى الاستمساك بهذا الطريق وتعزيز وغذ السير على دروبه، وإنجاز المزيد من الإصلاحات التي يطالب بها الكويتيون في شتى المجالات.