ما ان اتضحت بشاعة المذابح «الجديدة» التي ارتكبها ذئاب الدواعش في تونس والكويت وفرنسا حتى خرج اصحاب الياقات البيضاء على الناس بتصريحات نارية وعلت أصوات التنديد والتهديدات وخرج الكل في المنطقة (دع عنك العالم الغربي المنافق أو اولئك الذين لا يعنيهم الأمر، فلاذوا بالصمت واكتفوا بالمراقبة) وبدت اجواء المنطقة في ظل ضجيج التصريحات والادانات والاستنكارات، وكأنها على وشك الدخول في مرحلة اجتثاث داعش وتصفيتها وطي صفحتها، كفصل دموي عابر، لا يحتمله التاريخ وتلفظه الجغرافيا، بعد ان لم يعد من المقبول استمرار خطابه ونهجه وارتكاباته.
لكن شيئاً من هذا لم يحدث، ويبدو انه لن يحدث، فوجود داعش في حد ذاته «استثمار» مُجدٍ وناجع وبمردود «جيوسياسي» عالٍ، لهذا كثرت الاقوال وقلّت الافعال وراحت الشعوب المصدومة والمكلومة والمقيمة على حافة «الهوات» فاغرة الافواه، تُراقب ما يحدث بانفعال ودهشة واستغراب، وتُبدي من الشكوك والريبة في مواقف الأنظمة خصوصاً العربية، ما تنوء بها الجبال، لكنها - الأنظمة - تعلم في قرارة انفسها، أن داعش لو لم تكن موجودة لكان من الضروري إيجادها، «وتوظيفها» في مرحلة إنعدام اليقين وتراجع الخيارات وبؤس المآلات، كون هذا «التوظيف» غير مكلف، ما دامت الانظمة اياها تظن (وكل ظنها إثم وخطأ) انها قادرة على «لجمها» عند الضرورة وكتابة جدول اعمال مغاير لخطابها في اي لحظة، بدءاً من تنصيبها على رأس قوى «الثورة» لاطاحة الانظمة ونشر الفوضى، وليس انتهاء بتسخيرها اداة في الحرب الطائفية والمذهبية التي اريد لها ان تستعر بين السُنّة والشيعة، في تواطؤ مكشوف وصريح على إبعاد انظار الشعوب (العربية والاسلامية) عن ارتكابات الانظمة وفسادها وعجزها، فضلاً عن تحالفاتها المشبوهة حتى مع العدو التاريخي للأمتين، وهو الصهيونية العالمية وصنيعتها اسرائيل، ودائماً في ايقاظ المشاعر البدائية والعمل بدأب ومثابرة على زيادة الشحن الطائفي والمذهبي وخصوصاً في الهرب إلى الامام واختراع المزيد من «العداوات» الداخلية وتفجير صراع «الهويات» الثانوية في المجتمعات العربية، حيث لم يعد ثمة مجتمع عربي «واحد» غير مُفخّخ، بهذه الدرجة أو تلك، على النحو الذي نشهده في اكثر من بلد عربي، إذ تزداد وتيرة العنف وتزداد ثقافة الاغتراب واللامبالاة وترتفع حمّى الممارسات والعادات الاستهلاكية وتتفكك عُرى الاسرة وتسود الاحقاد والنزعات العدوانية لدى المواطنين, الامر الذي يُفضي الى ارتفاع نسب الجريمة والسرقة والانحراف الاخلاقي وتتصدع منظومة القيم المجتمعية, فتغدو مهمة الانظمة «أمْنِيّة» بامتياز، وتتحول تلك «المظاهر» الى مشاجب للانظمة, «تُعلِق» عليها فشلها وخيباتها وسمسرتها وفسادها.
ماذا عن داعش اذاً؟
هنا تتحول المجتمعات الى مجتمعات داعشية, فيرتفع منسوب الخوف والعزلة، وينخفض على نحو مريع منسوب المناعة الوطنية وينحدر الى حدود الصفر بارومتر التضحية، فتغدو «الأنا» متضخمة ولكن في جانبها السلبي العميق, الذي يرفض ان يساهم في أي مجهود وطني حتى بالكلمة، بما هي اضعف الايمان، وترتفع الشكوك وتسود الريبة وتنعدم الثقة المتبادلة, فتبدو كل حياتنا وكأنها متاريس أو خنادق أو ساحات مواجهة لأتفه الاسباب, ناهيك عن سيادة الجشع وانعدام القناعة وتآكل الضمائر وسقوط القيم وتهافت المصالح وسيادة الانانية.
«داعش» مشروع استثماري ناجح بمردود مُجْزٍ سياسياً واجتماعياً وأمنياً للانظمة، كما للنخب السياسية والحزبية ومنظمات المجتمع المدني التي لم تغادر-حتى لو رغبت ما بالك انها لا تستطيع-مربع التنظير والتبرير، ولا تتخلى عن «البزنس» حتى في ظل سفك الدماء وازهاق الارواح وتواصل الخراب والفوضى والدمار, والا كيف تفسرون كل هذا «الصمت» الاقليمي (بمعنى العمل العسكري المباشر والمتواصل) ازاء ارتكابات داعش؟ وكيف يمكن للحرب المزعومة على الارهاب ان تبقى بلا انجاز يُذْكَر فيما يتمدد داعش ويتواصل توسّعه وتترسخ «خلافته»؟ وليس امامنا سوى «عدّاد» اميركي مخادع يُبْلِغنا عدد الغارات التي تمت ضد هذا التنظيم الارهابي في سوريا والعراق؟.. كذلك كيف لعاقل أن يُصدّق ادعاءات اميركا والغرب الامبريالي، بأن المعركة مع داعش ستستمر عشر سنوات, فيما توافقها (صمتاً أو خوفاً... لا فرق) الانظمة المتحالفة معها, ما يعني ان علينا «التعايش» مع ارتكابات وجرائم ومذابح وفنون القتل والتعذيب الداعشي لعِقِد مقبل؟
الا تعتقدون أن الكل «مُسْتثمِر» في «مشروع» داعش, بهدف استنزاف الاخرين ودفعهم لرفع الرايات البيض، أو التمكن من فرض قراءاته وخططه على المنطقة دولها وشعوبها, بعد أن يكون الجميع قد تعب وأصابه الارهاق ولم يعد قادراً على قول «لا»؟
ألا بئس ما يفعلون وفي «بشاعة».. ما يستثمِرون.