هاشم صالح
بصراحة كنت أعتقد أننا غطسنا غطسة طويلة مع الإخوان المسلمين في مصر.. كنت أعتقد أننا لن نخرج من كابوسهم قبل عشرين أو ثلاثين سنة مقبلة مثلما حصل في إيران.. فإذا بشعب مصر يكذب توقعاتي ومخاوفي وهمومي.
شكرا إذن لشباب مصر! كيف نسيت أنه شعب حضاري منذ القرن التاسع عشر على الأقل؟ كيف نسيت كل تراكماته وإنجازاته على مدار القرون؟ كيف نسيت رفاعة رافع الطهطاوي وأحمد لطفي السيد وطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ والغيطاني والأسواني وعشرات آخرين؟ كيف نسيت رواد التنوير المصري والعربي الذين علمونا ما لم نكن نعلم؟ لماذا كل هذا الاستسلام.. هذا الانبطاح، أمام زمجرات «الإخوان» وشيوخ الفضائيات يا مثقفي العالم العربي؟ عندما كنت على وشك العودة إلى حظيرة الماضي لكي أنجو بجلدي، إذا بشعب مصر يعفيني من ذلك ويعطيني جرعة أمل منعشة.. قوية.
كنت على وشك الانهيار والاستسلام للمقدور، فإذا به ينفخ الروح في أعصابي وكياني كله. كيف يمكن أن لا أشكره؟ لا لم يمت التنوير العربي ولا يمكن أن يموت بمثل هذه السهولة على عكس ما تخوفنا. في الواقع أن الشيء الذي كان يرعبني «ويحبطني» بحسب مصطلح مشاري الذايدي هو أن الشعب فقير في معظمه ويعيش تحت خط الجوع؛ بل وأمي أيضا.. وفي مثل هذه الظروف، فإنه يصبح لقمة سائغة للمتطرفين الذين يتلاعبون به كما يشاءون، هذا ناهيك بالقنوات الأصولية التي تحشو عقله على مدار الساعة بالخرافات والأوهام فيصبح مستلبا تماما وغائبا عن الوعي تقريبا. يضاف إلى هذا أن العديد من المثقفين أو أشباه المثقفين سرعان ما انبطحوا أمام الموجة الإخوانية؛ بل وراحوا يصفقون لهم باعتبارهم رواد حرية وتحرير! وزعموا أن «الإخوان» جاءوا بكل بساطة لإسقاط الاستبداد وإحلال عهد الحرية والديمقراطية والفكر النير وحقوق الإنسان! أين منهم فولتير أو مونتسكيو أو جان جاك روسو؟
وهكذا قلبت الأمور عاليها سافلها من قبل مثقفي التزييف الذين يدعون الحداثة وهي منهم براء. لقد انكشفت الأقنعة عن الوجوه.. إنهم أعداء ألداء لحركة التنوير العربي. أصلا مجرد ذكر كلمة «تنوير» يزعجهم ويخرجهم عن طورهم. وفي عصر الردات والتنازلات والتراجعات كان يمكن أن يجرفك التيار مع المجروفين.. لولا عفو الله. لا أعرف لماذا بحجة وجود أنظمة استبدادية عسكرية ينبغي أن نسقط في أحضان الجهة الأخرى: أي جهة الأنظمة الإخوانية المضادة لحركة التاريخ، وهكذا نصبح «كالمستجير من الرمضاء بالنار»!.. ألا يوجد حل آخر؟ نرفض هذه وتلك وندفع الثمن باهظا في كلتا الحالتين. هناك خط ثالث هو الذي تدشنه جماهير القاهرة ومصر كلها. لقد نسيت قناة فضائية والإخوان المسلمون الحقيقة البسيطة التالية؛ وهي: لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. فالمكتسبات الحضارية التي حققها الشعب المصري وبقية الشعوب العربية منذ عصر النهضة وحتى اليوم لا يمكن الشطب عليها بجرة قلم.
وهكذا استيقظت هذا الصباح وكأني بعثت من القبر وانزاح عن صدري كابوس ثقيل.. ثقيل. هل يعني ذلك أن الأمور انتهت؟ معاذ الله! ينبغي أن لا نكون ساذجين أو مغفلين؛ «فالبعبع الإخواني» لن ينتهي قبل زمن طويل، وسوف يحاول المشاكسة والضرب في الظلام ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. سوف يظل كالسيف المسلط فوق رقابنا، يكفر هذا ويبرئ ذاك بحسب الحالة والحاجة.. سوف يظل يستخدم الدين أداة فعالة وفتاكة لعرقلة نهضة الشعوب العربية السائرة نحو النور والحرية. ولكن ما حصل في مصر خلال الساعات القليلة الماضية يعني أن مصارعة التنين ممكنة، بل ويمكن أن نخرج منها منتصرين. ماذا نريد أكثر من ذلك؟ أستطيع أن أموت الآن قرير العينين. قطار التحرر العربي أصبح على السكة الصحيحة وهو جاهز للانطلاق. حقا إن طه حسين على صواب: مصر جزء لا يتجزأ من الحضارة الحديثة.
لا ريب في أن الصراع بين شقي مصر الكبيرين، الإخواني والتنويري، سوف يستمر زمنا طويلا. أحيل في هذا الصدد، على سبيل الاستضاءة والمقارنة، إلى كتاب الباحث الفرنسي المختص إميل بولا: «الحرية.. العلمانية.. حرب شطري فرنسا ومبدأ الحداثة». المقصود بشطري فرنسا هنا الشطر الإخواني المسيحي والشطر العلماني الحديث. وقد استمرت هذه الحرب مائتي سنة حتى حسمت لصالح الشطر الثاني، وانتصر الفهم العقلاني الليبرالي للمسيحية على الفهم الظلامي الأصولي القديم.
على هذا النحو مشيت في الشوارع على غير هدى لكي أستمتع باللحظة إلى أقصى حد ممكن. وفجأة وصلت إلى الحز الفاصل بين الهرهورة وسيدي العابد، هناك حيث الإطلالة الرائعة على الكورنيش.. هناك حيث يتسع البحر لكي يصبح أكبر من البحر.. وعندئذ حملقت في الآفاق اللامتناهية الجمال وقلت: الآن ابتدأ شيء جديد يختلج في أرض العرب. والله ما كنت أحلم بحصوله في حياتي كلها.. كنت أعتقد أنه لن يحصل قبل عدة أجيال.. ماذا؟ شعب مصر «يتمرد» على الإخوان المسلمين الذين أرعبوا العالم كله؟ الآن ابتدأت الثورة الحقيقية..
الآن ابتدأ ربيع الشعوب العربية. في السابق كانت ثورة مصر ذات طابع ديني على الطريقة الإيرانية، والآن أصبحت ذات طابع مدني على الطريقة الأوروبية. في السابق كانت ثورة ماضوية تعيدنا إلى الخلف، والآن أصبحت ثورة مستقبلية تقذف بنا إلى الأمام. من قال إن حسن البنا انتصر على طه حسين والإمام محمد عبده؟ راجعوا معلوماتكم. من قال إن الآيديولوجيا الإخوانية التوتاليتارية التي «تقتل سماحة الإسلام والعقل العلمي في آن معا» كما يقول محمد أركون، ستكون لها الكلمة الأخيرة؟ صححوا أفكاركم. القرآن الكريم يقول: «لا إكراه في الدين». وهم تجاهلوا ذلك فأصبح قسرا وإكراها على طول الخط، بل وتحول على يدهم إلى إرهاب شوه صورة الدين الحنيف في شتى أرجاء الأرض.
كل قوى التطرف خرجت من معطفهم. ومؤخرا خشينا أن يسيطروا على كل أقطار العرب الواحد بعد الآخر بسبب ضخ المليارات في جيوبهم ومحاولة البعض حرف الربيع العربي عن مساره الصحيح وتجييره لصالح قوى الردة والانتكاسة الحضارية. وهكذا أطبق علينا الكابوس من كل الجهات، وعم الظلام. عام كامل من الإحباط والرعب والتشاؤم، ولكن البلد الذي أنجب جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 هو الذي سيقبرها بكلتا يديه، وهو الذي سيصحح مسار الربيع العربي لأنه كان دائما رائدا للأمة على طريق التقدم والتطور والنهوض.