يبدو ان الصورة صارت اقرب للمصريين بعد الصدام الاخير المثير في شمالي سيناء، فالتجربة المريرة في سوريا والعراق على مدى الاربع سنوات الاخيرة، تدّل دون ادنى شك، على فشل الحكم فيهما في فهم استراتيجيات عمل داعش بالذات وتكتيكاته العسكرية، وهو السبب المباشر في هذه الانتكاسات العسكرية المتمادية، وهنا يجدر بنا ان نستحضر حروب التحرر من الاجنبي (الصين وفيتنام) وحروب التحرر الوطني في كوبا بالذات.
بالاصطلاحات الاسبانية – الجنوب اميركية هناك التوباماروس وهم ثوار المدن وهؤلاء نجحوا في زعزعة الانظمة الاستعمارية والديكتاتورية لكنهم لم ينجحوا في اسقاط اي منها، وهناك الكوماندوس وهم ما نعرفه بالزحف الطويل في جبال الصين الشمالية، وخروج فيديل كاسترو وتشي جيفارا الى جبال السيرامايسترا والفياشكونغ في فيتنام.
داعش، وعمر تنظيمها اقل من سنتين، استطاعت حتى الان استغفال النظامين السوري والعراقي، فهذه مجموعة كوماندوس مدرّبة جيدا، وتقاتل وتتحرك بمجاميع ليست قليلة، خفيفة الحركة سريعة التنقل حتى بعد وضع يدها على اسلحة ثلاث فرق عراقية ثقيلة.
في شمال سيناء قدّرت القيادة المصرية هجوم المسلحين بثلاثمائة مقاتل خرجوا من الجحور الصحراوية وهاجموا كمائن الجيش المصري بقوة، وهذه «المفاجأة» تكررت: فالهجوم على الموصل تم بثمانمائة مقاتل فقط، واستطاع هزيمة اكثر من ثلاثين الف عسكري ورجل امن عراقي من ثلاث محافظات، ولعل احد منّا يتذكر «المحللين الاستراتيجيين» الذين كانوا يتحدثون عن الجبال المغطاة بالغابات في نجاحات حروب الغوّار في فيتنام او كوبا، وجاءت داعش لتعلمهم ان الصحراء هي ايضا بيئة صالحة للقتال بطريقة الكوماندوس كالغابات، وقد استطاع حفاة بسيارات الدفع الرباعي في تشاد فضح مئات الدبابات الليبية والاستيلاء عليها، وتعطيلها في ثمانينات القرن الماضي.
ونعود الى شمال سيناء فنقول ان بيت المقدس او ولاية سيناء الداعشية ليست من صنع الاخوان المسلمين، وإن كان احد قادتهم (البلتاجي) ارتكب حماقة الانفعال فاعلن: ان ما يجري في سيناء سيتوقف لمجرد اطلاق سراح مرسي وعودته الى الاتحادية.
قد يكون الاخوان قدموا معونات لوجستية حاولوا تمريرها لحماس في غزة، فاصبحت غنيمة لداعش، لكن داعش المصرية ليست اخوانية، وإذا كانت الحكومة في سعيها لتدمير الاخوان في مصر تستعمل احداث شمال سيناء كمبرر، فإنها تكون قد اقنعت نفسها من حيث ارادت التحريض العاطفي.
في رأينا أن داعش المصرية (سيناء) هي حالة مستمرة لفكرة قديمة تستهدف اسكان وتوطين اللاجئين الفلسطينيين بمدّ قطاع غزة الى شمال سيناء، وهي فكرة معروفة باسم مشروع هامرشولد امين عام الامم المتحدة السويدي قدمه في مطلع الستينيات من القرن الماضي، فهذه منطقة يمكن ان تستوعب حوالي نصف مليون فلسطيني، فيها مياه وارض صالحة للزراعة، والغريب ان اسرائيل اقامت بها مجموعة مستوطنات معروفة «بمستوطنات ياميت» وقد اصرَّ السادات على ازالتها في كامب ديفيد فأزيلت. ونظن ان مشروع التوطين في شمال سيناء لم يمت ونستطيع ربطه بقرار ارئيل شارون بإزالة مستوطنات غزة، فقط للتذكير فإن مقابل «مشروع هامرشولد» كان عندنا هنا في مشروع قناة الغور الشرقية (والغربية) وتقسيم الارض الى وحدات قالت الدراسة وقتها انها يمكن ان تكفي عائلة لاجئة، لكن تطوير الاغوار التزم بوطنية وحرص الدولة، فجعلت منه مكاناً ملائماً لتطوير الزراعة المروية وليس للتوطين.
ما جرى في شمال سيناء مربوط بخيط رفيع بمشروع هامرشولد ومد الحالة الفلسطينية الى مساحات تتجاوز الـ260كم2، مساحة القطاع، فقد ساعد الاحتلال على مد مدينة العريش بحيث تندمج العريش الفلسطينية بالعريش المصرية، وقد منح الرئيس محمد مرسي الجنسية المصرية لـ200 الف فلسطيني ليستوطنوا شمال سيناء.
في السياسة كما في الطبيعة: لا شيء يُخلق ولا شيء يُفنى!!