أين الخطر بالضبط فيما جرى من مواجهات شرسة فى «الشيخ زويد»؟
باليقين فإنها المواجهات الأكبر مع الإرهاب وجماعاته من حيث حجم المهاجمين ونوعية التسليح ومستوى التخطيط ودرجة التدريب وطول فترة الاشتباكات وما خلفته من دماء.
نحن أمام عملية تتجاوز كل العمليات السابقة التى توصف بأنها نوعية وتومئ لتحولات فى طبيعة الحرب الدائرة بسيناء.
هناك وقائع تروى وأرقام تذكر لكنها لا تلخص على أى نحو طبيعة التحولات وفداحتها.
سيناريو ما جرى هو الخطر.
فهو صريح فى نقل تجربة «داعش» فى سوريا والعراق إلى سيناء بالتمركز على الأرض فى «الشيخ زويد» وفصل رفح عن العريش.
رغم الفشل الذريع الذى لحق بقوات الهجوم فى الوصول إلى النتائج التى طلبتها إلا أنه من غير المستبعد تكرار مثل هذه المحاولة ما لم تتقوض فرصها نهائيا.
بوضوح كامل لا يصح أيا كانت التضحيات والأثمان السماح لهذا السيناريو أن يضع قدمه على أرض أيا كانت مساحتها فالعواقب بعد ذلك وخيمة.
بحسابات التنظيم فإن «أنصار بيت المقدس» فرع من «داعش» يبايع زعيمه «أبوبكر البغدادى» على الخلافة وقد وجد بيئة حاضنة فى سيناء ومصادر تمويل وتسليح فى الإقليم.
وبحسابات التخطيط فإن تجربة «داعش» فى «الرقة» تلهمه حيث التمركز فى موضع استقطب إليه سلاحا وأموالا ورجالا جرى التمدد بعده إلى مواضع أخرى وصلت إلى نصف سوريا وثلث العراق.
التجربة نفسها وجدت موطئ قدم فى ليبيا.
ورغم أن الظروف الجغرافية والسياسية والسكانية تختلف بفداحة فى سيناء إلا أن هناك ثغرات واسعة توظف لمحاولة نزعها من الوطن الأم.
هذا يستدعى التنبه بغير فزع والعمل بنفس طويل، فالحرب ليست سهلة وحسمها سوف يستغرق وقتا طويلا نسبيا.
لساعات بدت طويلة تمكنت «داعش» أن تفرض شيئا من السيطرة الميدانية على «الشيخ زويد»، لغمت الطرق إليها واحتلت أعلى البنايات وقتلت سكانا اعترضوا طريقها وحاصرت قسم شرطتها بعد أن استهدفت خمسة عشر كمينا أمنيا فى وقت واحد بأعداد غير مسبوقة من المهاجمين يقدرهم المتحدث العسكرى بـ(٣٠٠).
إنها إذن حرب حقيقية لا مجازية بأسلحة متقدمة لم تستخدم من قبل فى أية مواجهات سابقة تطلب احتلال أرض تعلن عليها «ولاية سيناء».
العمليات الإرهابية السابقة عملت على استهداف مواقع تأمين أو مقار أمنية وعسكرية دون أن تسعى لمثل هذا التمركز.
هذا هو جوهر الخطر فى الحرب السادسة بسيناء.
فى الحرب الأولى (١٩٤٨) كانت سيناء جسرا بريا انتقلت فوقه القوات المصرية وكتائب الفدائيين إلى فلسطين حيث جبهات القتال ولم تكن موضوعا للحرب.
وفى الحرب الثانية (١٩٥٦) لم تكن سيناء الميدان الرئيسى للقتال، فقد دخلها الجيش الإسرائيلى بهدف إرباك الجيش المصرى بينما كانت قوات الغزو البريطانية والفرنسية تقصف بالطائرات بورسعيد وتعمل على احتلالها لاستعادة قناة السويس التى أممت للتو.
وفى الحرب الثالثة (١٩٦٧) دارت العمليات العسكرية فوق سيناء ومنيت مصر بهزيمة مريرة ووصلت القوات الإسرائيلية إلى شاطئ قناة السويس.
أطلق الأمريكيون على احتلال سيناء «اصطياد الديك الرومى» والتسمية بذاتها دالة على الهدف الرئيسى من الحرب كلها.
وفى الحرب الرابعة «الاستنزاف» شهدت سيناء معارك وتضحيات وبطولات فى ظروف صعبة شارك فى بعض عملياتها متطوعون من أبنائها.
فى هذه الحرب أثبت السيناويون صلابة انتمائهم الوطنى، وهو معنى لا يصح أن نفرط فيه أو نهون من أهميته.
وقد كانت قمة المواجهات العسكرية اقتحام سيناء بقوة السلاح وإرادة القتال من فوق المعابر فى الحرب الخامسة عام (١٩٧٣).
الحرب السادسة تختلف فى طبيعتها ومتطلباتها عن كل الحروب التى سبقتها.
لا المواجهة مباشرة مع قوة عدوان خارجى، فأغلب الذين يقاتلون الدولة ينتمون إلى قبائل المنطقة.
وهذه مأساة بذاتها تستدعى المساءلة عن أسبابها.
ولا مسرح العمليات فى سيناء ميدان لأهداف أخرى، إنه نفسه هو الهدف أو أن ينتزع إلى الأبد من الدولة المصرية.
بحسب القاعدة الثابتة فالحروب تقاس بنتائجها السياسية.
قضية مصر الأولى فى هذه الحرب أن تحفظ وحدتها الترابية، وهذه مسألة تتعدى قوة السلاح إلى حضور السياسة.
بقدر ما ندرك يمكننا أن نصحح ونتقدم ونحسم.
فى كل الأحوال لا يصح أن تضيع الحقائق الأساسية وسط إحباط لا يجدى وتهوين لا يفيد.
دعم الجيش مسألة أساسية فى أى حديث جدى فالنيل منه يفضى مباشرة إلى هدم الثقة العامة فى المستقبل، أى مستقبل.
وإطلاع الرأى العام بصدق وشفافية على ما يجرى مسألة أساسية أخرى حتى يكون شريكا كاملا فى حرب قد تمتد لفترات أخرى مقبلة.
والاعتراف بأوجه الخلل مسألة أساسية ثالثة حتى يتسنى بناء استراتيجية أكثر تماسكا لمكافحة الإرهاب وصون سيناء.
كل عمل عسكرى فهو سياسى وأية استراتيجية لا تقف على أرض سياسية صلبة مرشحة للتقويض.
مع كل عملية إرهابية كبيرة فى سيناء تتكرر الأحاديث نفسها عن التنمية وضروراتها والأهالى وأدوارهم دون أن تتبدى مرة واحدة خريطة سياسية واجتماعية وأمنية نعمل على أساسها.
بصياغة أخرى فإن الأسئلة الرئيسية لا إجابة عليها حتى الآن أمام رأى عام قلق:
من أين جاء المهاجمون.. وإلى أين فر الذين أفلتوا؟
ولماذا لم ننجح بقدر كاف على مدى سنتين فى تقويض جماعات الإرهاب؟
ما مدى تورط جهات استخباراتية إقليمية فى التخطيط والتمويل والتسليح؟
يقال عادة فى الحروب إن المعلومات بقدر الحاجة وإنها قد تضر بالمقاتلين أثناء العمليات، هذا صحيح فى كل أنواع الحروب باستثناء الحرب مع الإرهاب.
الرأى العام طرف مباشر والحفاظ على ثقته من مقتضيات كسب الحرب.
على الأقل لابد أن تكون الدولة قبل غيرها المصدر الرئيسى للمعلومات وإلا فإن الناس بأسباب القلق سوف تبحث عنها من مصادر أخرى.
لنحو ما يقارب الـ(١٤) ساعة بعد بدء الهجوم الإرهابى على «الشيخ زويد» غابت أية معلومات رسمية بينما العالم كله يتحدث فى أرقام الشهداء والضحايا من الضباط والجنود واحتمالات «سيناريو الرقة» فى سيناء.
عندما تتأخر روايتك فإن الرأى العام تتزعزع ثقته فى نفسه وفى دولته وقدرتها على صد مثل هذه الأخطار الوجودية.
عندما لا تتكلم فى الوقت المناسب ويكون كلامك مصدقا فإن غيرك سوف يملأ الفراغ الإعلامى.
لقد أخذت الحرب السادسة فى سيناء منحنى خطرا يستدعى أن يكون البلد كله يقظا وقادرا على تصويب الأخطاء.