يقول «سترابو» في وصفه للأنباط ولمدينتهم البترا كما كانت في القرن الأول قبل الميلاد: يمتاز الأنباط باعتدالهم وجدّهم، حتى انهم يفرضون عقوبة علنية على كل شخص تتناقص ثروته. اما الذي ينمّي ثروته فيزداد تكريماً وشرفاً.
ولأن الأنباط لا يقتنون سوى عدد قليل من العبيد، فإنهم يستخدمون أقاربهم، أو يخدمون بعضهم بعضاً أو يخدمون أنفسهم بأنفسهم.. حتى أن الملوك يتبعون هذه العادة، أما مساكن الأنباط فهي منشآت ضخمة من الحجر، وغير محاطة بالأسوار بسبب حالة السلم والأمن السائدتين في بلادهم.
هذا النص موجود في كتاب «آثار الأردن»، للانكستر هاردينع، الذي عمل في الآثار، وعرّبه فقيدنا سليمان الموسى.
ونعود إلى «سترابو» والأنباط، لأننا نعتقد أن الأردنيين الآن هم الامتداد الطبيعي, والورثة الوطنيين الشرعيين لدولة قامت في هذا البلد قبل المسيح وبعد المسيح، ووصلت في نفوذها التجاري والحضاري إلى دمشق وشمال السعودية والذين زاروا آثار الشمال السعودي يلاحظون أنها نبطية مائة في المائة.. كما في البترا ومحيطها. فهل ان الأردنيين الآن يمتازون باعتدالهم وجدّهم كما كان أسلافهم؟!. والجواب نعم رغم كل هذا الغضب المفتعل الذي نسمعه هنا وهناك.
فالمجتمع الأردني يسوده الاعتدال والجدّ.. وإذا لم نجد في قوانيننا الآن عقوبة علنية على كل شخص تتناقص ثروته، فإننا نكرّم ونحترم الذين ينمّون ثرواتهم. فالأردني ليس عدواً للثروة.. حتى حين يطالب بالمساواة والعدالة فإنه لا يكره أبناءه الذين يسعون ويعودون بالثروة لانعاش بلدهم، وإنما يريد أن تكون له الفرصة ذاتها للوصول إلى الثروة.
القاعدون عن العمل والاعتداد الوطني، يعتقدون أن الذي يشبع هو فاسد، وناهب لحصة الفقراء.. وهذا ليس صحيحاً على الاطلاق، وهو تحريض سياسي. وقد كنا نسمع وصفي التل، بلل الله ثراه بالندى والعطر، يقول: الأردني فقير، وقد ينتج رغيفه اليومي. ولذلك فتقسيم الرغيف بالعدل والمساواة لا يحل مشكلة الجائعين. والمطلوب هو أن ينتج المواطن رغيفه: ينتجه أولاً من أرضه، فإذا كثر الناس فإنهم ينتجون رغيفهم بالعمل خارج الوطن الأردني.. والأردني مجتهد وقادر.
لقد كتب «سترابو» الكثير عن حياة النبطيين الأردنيين: كتب عن ديمقراطيتهم، وملوكهم، وكيف كان الحارث الرابع ينشر بالتفصيل مصروفاته، ومداخيله. و«سترابو» ككل المؤرخين الرومان. فهو يعترف أن معلوماته حصل عليها من «اثينودورس» الذي كان صديقاً ومعلماً للامبراطور اغسطس. وكان ولد في البترا. وعلى ذكر روما وأباطرتها.. فهؤلاء أخذوا مواقعهم لأنهم كانوا قادة جيوش. ومنهم أربعة من الحوارنة: فيليب العربي، واغسطس وسبتبموس سفيروس.
.. والخلاصة: فإن الأردنيين ليسوا أفراداً وجدوا في هذه الأرض القاحلة بالمصادفة. إنهم أبناء الأنباط والعمونيين والمؤابيين والغساسنة.. والعرب.
وهم يحملون في إرثهم الإنساني صفات أجدادهم الساميين الذين اطلعوا أعظم حضارات العالم وأولها: صناعة الحرف والأسطورة.