وليد شقير
كان يمكن لإجماع القيادات والقوى السياسية اللبنانية على التحذير من الفتنة السنّية – الشيعية في رد فعلهم على التفجير الذي استهدف الضاحية الجنوبية الثلثاء الماضي، أن يشكل مناسبة أو منطلقاً لتفاهم لبناني على إحداث اختراق في جدار التأزم السياسي الذي تعيشه البلاد، يعيد الى المؤسسات السياسية اللبنانية والدستورية شيئاً من الحيوية بدل الشلل الذي تتصف به منذ أشهر نتيجة الانقسام السياسي العمودي، لا سيما حول الموقف من الأزمة السورية، والذي بات ينسحب على القضايا الصغيرة والكبيرة، في إدارة شؤون الدولة.
إلا أن هذا الإجماع بقي عند حدود المواقف اللفظية، وتبين أن كلاً من فريقي الانقسام السياسي أخذ يلقي بمسؤولية الحؤول دون الفتنة التي قد يكون الهدف من وراء تفجير الضاحية تغذيتها، على الآخر.
وإذا كان السؤال الساذج هو من الذي سينغمس في هذه الفتنة طالما أن الجميع يتبرأ منها ويرفضها ويلعنها، فإن الإجابة البديهية أن ما من فريق يعلن جهارة أنه يخوض غمار الفتنة ويقرر إطلاقها متحملاً مسؤولية اندلاعها، فهي تقوم على شعارات كبرى تبدو نبيلة، لكن تدحرج الأحداث يجعل هذه الفتنة تنسلّ من بين ثنايا المواقف وترتكز الى العصبيات والغرائز المغلّفة بالمواقف الوطنية والقومية والإسلامية والنضالية والدينية أيضاً.
أياً كان من يقف وراء تفجير الضاحية، والتحليلات والاتهامات كثيرة، منها ما هو معقول وممكن ومنها ما يهدف الى الاستثمار السياسي لحصوله، فإن الأقرب الى الواقعية هو ربطه بتداعيات الأزمة السورية على لبنان. وهو ما لم تخفه تعليقات كثيرة لبنانية وخارجية، وإلا لماذا الحديث عن التكفيريين، أو عن ضرورة العودة الى سياسة النأي بالنفس عن الأزمة أو الى إعلان بعبدا؟
وقع الانفجار في لحظة ذروة جديدة بين الربط بين الأزمة السورية وبين الخريطة السياسية الداخلية في لبنان. ويكون من يتجاهل أن «حزب الله» يربط بقاءه على نفوذه وقوته وسلاحه في لبنان ومن ورائه إيران، ببقاء النظام السوري، كمن يدفن رأسه في الرمال. وهو لهذا السبب جاهر في الانغماس في القتال الى جانب النظام. ومن يتجاهل أن الفريق الآخر أي تيار «المستقبل» وحلفاءه في 14 آذار يراهنون على إعادة صوغ المعادلة السياسية في لبنان على قاعدة حسم قوة النظام السوري وإيران من الوزن الذي اكتسبه الحزب وحلفاؤه في موازين القوى اللبنانية، بحكم الوهن الذي أصاب هذا النظام وصولاً الى توقع سقوطه، يكون أيضاً كمن يدفن رأسه في الرمال. والمعادلة بالنسبة الى الفريقين هي أن موازين القوى في السلطة في لبنان هي امتداد لطبيعة السلطة في دمشق.
وقد أثبتت الأشهر القليلة الماضية أن من له اليد الطولى في البلد، أي «حزب الله» وحلفاءه بحكم ما يتمتعون به من قوة، تمكنوا من تأجيل انعكاسات الأزمة السورية على موازين السلطة في لبنان، لكن الانخراط العسكري المباشر في هذه الأزمة أدى الى التعجيل في تداعياتها الأمنية على البلد. ولذلك تمكن هذا الفريق حتى الآن من تأجيل الانتخابات النيابية، واستطاع تأخير تشكيل الحكومة في ظل توقعات بأن يتعذر على اللبنانيين أن ينتخبوا رئيساً للجمهورية في أيار (مايو) العام المقبل.
لم يتمكن «حزب الله» من تطبيق شعار أمينه العام السيد حسن نصرالله، «فلنتقاتل في سورية ونحيّد البلد» الذي رفعه لتجميل اشتراك قواته في المعارك في سورية، ولم يستطع أن يسحَب هذا الكلام على الموقف من المؤسسات اللبنانية الدستورية التي كان يقتضي تجنب حصول الفراغ فيها قدراً من الاستعداد للتسويات، لأنه بموازاة عدم تهاونه حيال محاولات إسقاط حليفه النظام السوري، لا يستطيع قبول الحلول الوسط داخل المؤسسات اللبنانية، إما لاعتقاده بأن الآخرين قد يستضعفونه أو لأنه يتوقع الانتصار في سورية الذي يجب أن يحصل مثله في لبنان.
ولم يتمكن تيار «المستقبل» وحلفاؤه من إقناع خصومه بقيام حكومة حيادية لا تضمه ولا تضم «حزب الله»، لأن انحيازه الى خط إسقاط النظام السوري، لا يتناسب ومستجدات ميزان القوى العسكري، في الأشهر والأسابيع الأخيرة...
وإذا كانت المخاطر التي ظهرت عقب تفجير الضاحية تكمن في غياب أي مؤشر للتوافق على معالجة الفراغ في المؤسسات العسكرية والأمنية والإدارية وفي الحكومة وإعادة تحريك البرلمان الممدد له، لعلّ هذه المؤسسات تتمكن من استيعاب محاولات إذكاء الفتنة في البلد، فإن أخطر ما حصل هو محاولة تهشيم المعتدلين الذين يمكن أن يلعبوا دوراً في لجم الفتنة. وهو ما يشهد عليه الهجوم المنظم والاتهام الموحد الذي صدر من مناصري «حزب الله» ضد النائب بهية الحريري بأنها ترعى المتطرفين ومن يقومون بالتفجيرات. فهل يراد من التهشيم، «تهشيل» ما تبقى من آل الحريري لتخلو الساحة للمتطرفين فعلاً، بعد أن تم إطلاق النار على منزلها وتمت محاصرته في 23 حزيران (يونيو) الماضي؟