عبدالله ناصر العتيبي
ظهر مواطن مصري تبدو على هيئته مظاهر البساطة والفقر ومحدودية التعليم على شاشة القناة الإخبارية الفرنسية «فرانس ٢٤» خلال تقرير بثته الجمعة الماضي عن الحياة اليومية في ميدان رابعة العدوية، يقول: "مش حنمشي من هنا لحد ما يرجع الرئيس محمد مرسي. مصر دولة إسلامية. عايزينها زي السعودية"! وفي المقابل تدفع السعودية بلايين الدولارات للنظام الجديد الذي أطاح بـ"دولة" مرسي لتبقيه واقفاً ما أمكن، وتؤكد أن ما قام به الجيش المصري يمثل واجباً وطنياً كان لا بد من القيام به لإنقاذ مصر من النفق المجهول الذي كانت تسير فيه ولا يعلمه إلاّ الله! ولا تخفي ارتياحها لعودة الحكم إلى أولياء الثورة الأولى بعد أن اختطفه "الإخوان" عاماً كاملاً.
وفي السعودية نفسها التي تؤيد الغالبية فيها ثورة التحرير الثانية ينشط الإخوان السعوديون والمتعاطفون معهم، قصداً وجهلاً، في الترويج لمظلومية الرئيس مرسي، ويصوّرون ما حدث في ٣٠ حزيران (يونيو) وكأنه انقلاب على الإرادة الإلهية والمشروع الإسلامي الذي أراد الله له التمكين في الأرض من خلال الديموقراطية! ولا ينسى هؤلاء الناشطون أن يتهموا السعودية والإمارات وأميركا والحركات الصفوية في العالم بالتآمر على الرئيس "المسلم الحافظ للقرآن" الذي بات يظهر هذه الأيام في أحلام الكثيرين من أنصاره وهو يرافق الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) في مواقف مختلفة تتغير وتتشكل بحسب مرجعية "الحالم" وخلفيته التعليمية والاقتصادية.
أما في إيران، مركز الصفوية كما يحبذ الناشطون الإسلاميون تسميتها، فالوضع ليس كما يتصوره الكثير من السعوديين الرافضين لانتزاع السلطة من "الإخوان"! الآيات هناك ليسوا هذه المرة مع الرغبة الشعبية المليونية التي عمت محافظات مصر في ٣٠ يونيو. ولم تخرج منهم أية إشارات داعمة للتحرك الشعبي ضد مرسي، كما فعلوا ويفعلون مع تحركات بعض المواطنين الشيعة في البحرين.
الآيات الكبار في طهران وقم استبشروا خيراً بمجيء "الإخوان" إلى الحكم لأنهم يعرفون مدى سهولة احتواء مرجعية الحكم المؤدلجة، سواء أكانت حمراء أم خضراء، في البلاد التي تعاني اقتصادياً! يعرفون أن الأنظمة الثيوقراطية بصرف النظر عن انتماءاتها ومرجعياتها تتبع الأنظمة الشبيهة بها حال العوز والحاجة، ويعادي بعضها بعضاً حال الاكتفاء الاقتصادي، لذلك فقد مالوا في البدء مع مرسي ودانوا "الخروج على الحاكم" المنتخب! ثم راحوا يبحثون مع تركيا الوضع في مصر وتأثيره على إيران الثيوقراطية وتركيا الإخوانية بعد الخضوع للأمر الواقع.
ما يحدث في مصر حالياً يعيد من جديد خطوط التحالفات في المنطقة، ويبيّن مدى هشاشة النظام الإقليمي التي تنتظم فيه الكيانات السياسية القائمة. وما الثقة (غير العارفة) التي ظهر بها المواطن المصري البسيط في أول هذه المقالة إلا تأكيد على الحيرة (العارفة) للأنظمة في التعاطي مع متغيرات متلاحقة ومتغيرة يصعب قراءة نتائجها ونهاياتها. وليست الحيرة في بلدان الشرق فقط، فأميركا ودول أوروبا الغربية ما زالت تتعامل مع الثورة المصرية الثانية من منطلقين مختلفين، فحيناً هي خيار شعبي لا بد من مد اليد له، وحيناً آخر هي انقلاب ضد رئيس شرعي منتخب.
عندما تعود أميركا والدول الغربية إلى الورق ونظريات الحكم الغربية، فإنها تعد تدهور شعبية الرئيس وتناقص أعداد المؤيدين لسياساته مسألة طبيعية يقودها دائماً مؤشر الحال الاقتصادية وتعززها مبادئ المكاشفة والمراقبة والشفافية، ويعبر عنها خروج الشعب الى الشوارع في فعل ديموقراطي خالص قابل للقياس على فترات مختلفة، ولا يبرر ذلك بأي حال من الأحوال انحياز الجيش - الذي هو بحكم الدستور تحت غطاء السلطة التنفيذية - إلى المتظاهرين في الشارع وعزل الرئيس وتعيين رئيس آخر، لكنها في المقابل عندما تعود إلى ورق العلاقات الدولية وتاريخ الأنظمة السياسية في المنطقة فإنها تعد ما حدث في ميدان التحرير في ٣٠ يونيو بمثابة انتخابات مبكرة (وهي أيضاً فعل ديموقراطي خالص) قال الشعب كلمته فيها، وارتضى الطريقة التي تناسبه للتغيير والتي جاءت على صهوة الانتزاع قسراً لعدم إيمان "الإخوان" أصلاً بالديموقراطية وآلياتها ابتداءً بصندوق الاقتراع وانتهاءً بالاستفتاء على أهلية الحكم.
الحيرة الغربية صورتها مجلة "تايم" الأميركية على غلافها الأخير حينما وضعت صورة مليونية للمحتجين المصريين وجزأتها إلى قسمين، كتبت على الجزء الأول «أفضل الثوار في العالم» وكتبت على الجزء الآخر "أسوأ الديموقراطيين في العالم"! وفي مقابل الحيرة الإقليمية والدولية حيال ما يجري في مصر، فإن المصريين أنفسهم حائرون في كيفية رسم المستقبل القريب للخروج من عنق الزجاجة، ولئن كانت الحيرة الدولية والإقليمية ذات تأثير محدود في مستقبل مصر، فإن التخبط وعدم وضوح الرؤية لدى صانعي القرار المصري في الوقت الحالي يمكن أن يترك آثاراً عميقة لا يمكن الخروج من تعقيداتها إلا بعد عشرات الأعوام.
فالديموقراطية التي بات يؤمن بها المصريون اليوم (ومن بينهم الذي يريد سعودة مصر) تقتضي عدم إقصاء "الإخوان" وتتبع رموزهم وأخذهم إلى المعتقلات. فكما أن هناك ملايين في ميدان التحرير، هناك أيضاً ملايين مؤيدون لـ"الإخوان" في ميدان رابعة العدوية.
والديموقراطية أيضاً تقتضي حكم الأغلبية بصرف النظر عن إيمانها وعقيدتها، وكما أن هناك رغبات متنامية لاجتثاث جماعة "الاخوان" من كل العملية السياسية ورغبات مقابلة في إيقاف عمليات التطهير ضد "الاخوان"، هناك أيضاً مخاوف من فوزهم في الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلتين وبالتالي العودة من جديد إلى المربع الأول!
المصريون حائرون بين تفعيل الديموقراطية بالكامل أو تفعيلها على أجزاء لحين انقشاع غمة "الإخوان"، حائرون بين الانتصار لثورة ٣٠ يونيو أو العودة من جديد للرغبة الشعبية (الكاملة) التي قد تعيد "الإخوان" إلى الحكم.
من راصد من الخارج وصاحب رأي غير متأثر بما يجري في ميدان التحرير أو أمام مسجد رابعة العدوية أرى أن يعود المصريون موقتاً لدستور ١٩٧١ مع إلغاء مادته ١٩٤ واستبدالها بمادة تتعلق بثورة ٢٥ يناير وتغيير المواد التي تنص على شكل الدولة الرئاسي واستبدالها بما يجعل السلطات التنفيذية في يد رئيس الوزراء. ودمج الأحزاب الليبرالية كافة في حزب واحد، ليتعذر على "الإخوان المسلمين" في حال فوزهم تكوين حكومة إخوانية والاضطرار دوماً إلى الخضوع لمبدأ الائتلاف في الحكم. على المصريين أن يصنعوا عملاقاً يستطيع الوقوف أمام "الإخوان" في السباقات الديموقراطية، وإلاّ فإن العودة لحكم العسكر هي الأولى والأسلم!