لم يجف حبر اتفاق الصخيرات الذي وقّعته أطراف الصراع الليبي المتناحرة وفي ضمنها حكومتا طبرق (التي يُقال أنها مُعترف بها دولياً)، وحكومة طرابلس (التي تُهيمن عليها قوى فجر ليبيا وهي تسمية أو غطاء لهيمنة جماعة الاخوان المسلمين بفرعها الليبي عليها)، حتى فجّرت محكمة الاستئناف – دائرة الجنايات في العاصمة طرابلس (خاضعة لِجماعة فجر ليبيا) قنبلتها المدوية والتي ما تزال أصداؤها تتردّد في جنبات المشهد الليبي الدموي بل الفوضوي، بإصدار وجبة الاعدام (بالجملة) ضد «تسعة» من «رموز» نظام القذافي وعلى رأسهم نجله سيف الإسلام، الذي يُحتجز في منطقة الزنتان، تلك المنطقة التي لا تخضع لسلطة أي من الحكومتين سواء تلك الموجودة في طبرق أم التي تُحكم قبضتها على العاصمة.
وبصرف النظر عن «شرعية» أم عدم شرعية الأحكام التي أصدرتها محكمة طرابلس ,وما إذا كانت بالفعل صادرة عن «حكومة» تُمثل مجمل «الأراضي» التي كانت خاضعة ذات يوم لسيادة دولة حملت اسم «الجماهيرية» في عهد القذافي أم بعد اطاحته من قبل قوات حلف شمال الأطلسي التي فبركت قراري 1970 و1973 لتبرير تدخلها بحجة حماية المدنيين الليبيين الذين كانت تنتظرهم عملية «ابادة جماعية «وبخاصة في مدينة بنغازي ,على ما زعم الأطالسة وشرّعت لهم جامعة عمرو موسى (وقتذاك) ولاحقاً عواصم عربية معروفة تحمّست وشاركت في عملية أخذ ليبيا إلى الفوضى والمجهول وكلها حملت نفاقاً راية ثورة 17 فبراير (شباط) 2011، فإن خروج المظاهرات الرافضة لاحكام الاعدام في سرت حيث يسيطر «داعش» وفي مدن الجنوب الليبي حيث وجود قبائل «القذاذفة»الاكبر,فضلا عن الجدل الذي اندلع مباشرة بعد صدور الأحكام، داخل ليبيا وفي خارجها، يعيد إلى الأذهان المأزق، بل الفشل الذي سجّلته سلطات العدالة العربية والنفق المظلم الذي ادخلته الأنظمة العربية ,الأجهزة القضائية العربية فيه عبر افسادها والتدخل الفظّ فيها ووضع الاتباع وغير الأكفاء على رأسها فضلاً عن اخضاعها لأجهزة الأمن، على نحو فقد فيه القضاء في معظم (اقرأ كل) الأنظمة العربية ,أي نوع من الاستقلال ولم تشهد أحكامه أي تطبيق»جزئي» لمعايير العدالة أو تؤشر إلى نزاهة وكفاءة في عمل المحاكم العربية المدنية، ما بالك وقد أحيلت معظم القضايا «الساخنة» إلى محاكم عسكرية وأخرى أُخضعت لأحكام أنظمة الطوارئ وغيرها من محطات الاستبداد والديكتاتورية وتعليق الدساتير وإعلان الأحكام العرفية؟.
كل هذه الأجواء والمناخات بل والارتكابات التي قارفتها أجهزة العدالة العربية، أَفقدت الجمهور العربي الثقة بسلطة القضاء، بما هي سلطة يجب أن تكون مستقلة وفق احكام الدساتير العربية المُنمقة في صياغتها وديباجاتها ومصطلحاتها عملا بمبدأ الفصل بين السلطات الذي تنص عليه تلك الدساتير، لكنها مجرد مواد وبنوداً موجودة على الورق ,لا تصل مفاعيلها الى اروقة المحاكم ولا تعترف حتى بقوس المحكمة، حيث يرنو الاشخاص المولج اليهم تطبيق القانون وانفاذ أحكامه ويخضعون لاراء ومواقف بل لاوامر السياسيين واصحاب النفوذ والمال ولا يأبهون بالاعتراضات أو يقيمون وزناً للقَسَم الذي أدوّه أو لنداءات ضمائرهم (إن وجِدت بالطبع).
قد يستحق التسعة هؤلاء من رموز نظام القذافي عقوبة الاعدام (بافتراض وجود تأييد لمبدأ حكم الاعدام أصلاً) أو أقل منها أو ربما البراءة، لكن الاعتراضات على تلك الاحكام ليس فقط لقسوتها وفظاظتها وانما ايضا ودائما لانتفاء معايير واسس النزاهة والكفاءة في القضاء الليبي (والعربي عموماً) كذلك عدم حصول المتهمين على حقوقهم التي تفرضها مبادئ العدالة , مثل الالتقاء مع المحامين وقراءة الملفات والتمتع بحقوق السجناء والاقرار بالاعتراضات التي انتزعت منهم، ربما تحت التعذيب أو حتى بدون تحقيق او حضور محامين , ناهيك عن تغييب مقصود للمنظمات العربية وخصوصاً الدولية المهتمة بحقوق الإنسان والتي حذرت طويلاً ومسبقاً من مغبة المضي قدماً في محاكمات لا تتوفر فيها أبسط معايير النزاهة والعدالة.
ليس غريباً والحال هذه , ان لا يجد المرء في معظم بلاد العرب اي ثقة ولو في حدها الادنى بسلطات القضاء في تلك البلاد، بعد ان تم استتباع ذلك القضاء وتسييسه ووضعه في خدمة السياسيين واصحاب النفوذ ورجال المال والاعمال وشبكات الفساد والافساد , ولهذا قلّ احترام القضاء العربي في الداخل وخصوصاً في الخارج , وما جرى ويجري في ليبيا ليس سوى مؤشر على حقيقة موجودة وليس جديداً أو استثناءً.
*استدراك: ثمة اسطوانة مشروخة تتردد في وسائل اعلام «كل» الانظمة العربية مفادها ان لديها قضاء»نزيه» لا تتدخل فيه....أضحكتمونا رغم الاحزان التي «نرتع»...فيها.