مأمون فندي
في عالم يدعي فيه الكثيرون أن وسائل الاتصال الحديثة ألغت تماما فكرة الجغرافيا، إلا أنه في عالمنا العربي تبقى الجغرافيا هي المشكلة، وتكمن حلول معظم مشكلات دولنا في فهمنا لمشكلة الجغرافيا. الجغرافيا هي المشكلة والجغرافيا أيضا هي الحل.
مشكلة الدولة العربية الحديثة، وأولها مصر، هي مشكلة جغرافية قبل كل شيء ومهما تقوم الثورات ومهما تتعدد موجاتها إذا لم تحل مشكلة الجغرافيا سيبقى استمرار الدولة العربية الحديثة مهددا.
وما أقصده بمشكلة الجغرافيا هي تلك الفجوة ما بين مساحة الأرض التي تدعي الدولة السيادة عليها أمام العالم، وبين قدرتها على تنمية هذه الأرض أو أحيانا حتى السيطرة على حدودها أو التواصل مع سكانها. وأوضح صورة لذلك هي الدولة اللبنانية حيث أهملت الدولة جزءا كبيرا من جغرافيتها فأقام فيها حزب الله دولة داخل الدولة، أو ربما دولة أكبر من الدولة. ومصر رغم أنها قديمة كحضارة، إلا أنها هشة كدولة، ويمكن أن تتحول فيها سيناء أو الصعيد إلى دولة داخل الدولة إن لم ننتبه لمشكلة الجغرافيا التي أصبحت في عالمنا العربي هي الحل وهي المشكلة في الوقت ذاته.
الدولة العربية الحديثة في أحسن صورها هي دولة مدينة، أي أن تكون صرة الحكم في مدينة واحدة، مثل القاهرة التي يسميها المصريون مصر، وفي ذلك إجابة عما أصفه بمشكلة الجغرافيا. ففي القاهرة يتركز البشر (تعداد القاهرة من 16 مليونا إلى 20 مليون نسمة) ويتركز فيها الاقتصاد وتتركز فيها السلطة، وحتى أولياء الله الكبار من الحسين إلى السيدة زينب يتركزون في القاهرة.
سوريا لا تختلف كثيرا عن مصر فهم يطلقون على دمشق الشام اختصارا للحال السياسي في البلد رغم وجود مدن مهمة أخرى مثل حلب وحماة، إلا أن الشام هي لب الموضوع. السعودية ليست دولة مدينة واحدة مثل مصر، بل هي دولة مدينتين هما جدة والرياض، كمركز لإقامة الملك والحكم. الإمارات العربية المتحدة بطبيعتها الفيدرالية هي ربما الوحيدة التي ليست دولة مدينة رغم تفاوت الثروة بين الإمارات المختلفة. وهذا لا ينفي أن لديها أيضا مشكلة الجغرافيا والسكان.
كانت لبنان سابقا قصة مدينتين: بيروت والجبل واليوم بيروت والجبل وبنت جبيل. أي أن الجنوب الذي كان مهملا أصبح الآن هو محرك الدولة وفراملها في الوقت ذاته من خلال سيطرة حزب الله على ثلث لبنان تقريبا بالسلاح والمال والآيديولوجيا، إن لم يجر تقليص هذه الفجوة بين الادعاء والواقع، أي بين ما تدعيه الدولة العربية من حدود وبشر وبين ما يمكن السيطرة عليه وإدارته فلا تنفع ثورات ربيع أو خريف حيث ستبقى المشكلة البنيوية والهيكلية مرضا مزمنا في دولنا العربية الحديثة، وأولها مصر. ترى ماذا يعني شعار الجغرافيا هي الحل بالنسبة لدولة في حالة سيولة ثورية مثل مصر؟ وكيف ننتقل من الكلام النظري إلى أمور تطبيقية وقد تكون تنفيذية على أرض الواقع؟
أولى الأزمات المرتبطة بالجغرافيا، هي أزمة الهوية الوطنية ومشروعية نظام الحكم وقوانين الدولة التي تأخذ في الاعتبار التعددية الثقافية. عندما تطرح أزمة كهذه في الدول العربية يقال لك إنه لا أزمة هناك. في مصر تحل تلك الأزمة العويصة من خلال ترديد شعارات. فإذا كانت لديك الجرأة أن تقول إن مصر بلد متعدد مثلا دينيا وثقافيا قيل لك في التو: عناق الهلال والصليب وإزاي وإحنا البلد الوحيد الذي لا توجد به حارة يهود؟ نحن نسيج متداخل. ثقافة الإنكار هذه لا تحل المشكلة في دول حديثة ونامية مثل مصر. طبعا المصريون لا يقبلون فكرة أن مصر دولة صغيرة عمريا، لأنهم يخلطون بين الاستمرارية الحضارية ورمزياتها وبين دولة ما بعد الاستعمار التي هي الواقع.
مصر حضارة قديمة، ولكنها دولة حديثة وهذا ينطبق على اليونان والصين والهند. هذه دول بها معظم أزمات التنمية الرئيسة، ولكن بدلا من مناقشتها بجدية يجري إنكارها من خلال ترديد الشعارات الجوفاء.
عشت في الولايات المتحدة الأميركية ما يقرب من ربع قرن، وعشت أيضا في بريطانيا ما يقرب من عشر سنوات أي أنني في النقطة جيم من حكاية المهاجرين الذين غالبا ما يهجرون من البلد ألف إلى البلد باء من مصر إلى أميركا ويغرقون في المقارنة بين تجربتين (هنا في أميركا وهناك في مصر).
ثم يأتي الانتقال إلى بلد ثالث، وفي حالتي كان ذلك مقصودا، لأنني أحاول كتابة بحث عن المهاجرين وعالمهم من الزاوية الثالثة من النقطة جيم. ما أريد قوله في هذه الفقرة هو أنه رغم الاستقرار السياسي للدولتين (أميركا وبريطانيا) فإنه لا يمر صباح إلا وتجد في الصحيفة والإذاعة والتلفزة حوارا أو مقالا عن تحدي الدولة الجديد الذي فرضه المهاجرون بدياناتهم وشرائعهم في الزواج والطلاق، وكيفية احتواء هذه الثقافات وانخراطها في الثقافة الوطنية.
هذه الدول رغم استقرارها السياسي وصلابة شرعية نظام الحكم فيها، إلا أنها قلقة دائما فيما يخص انخراط الأقليات والثقافات الجديدة في المجتمع الأم والدولة الأم. ومصدر القلق هو أنها تحاول حل المشكلة بشكل حضاري. نحن لا نقلق لأننا قررنا أننا نسيج واحد «واللي يقول غير كده نديله على دماغه»، أي إرهاب المواطن إذا ما حاول الحديث عن ثقافته النوبية مثلا في مصر أو البدوية في سيناء أو الواحاتية. بعد كل هذه الهزات الثورية، لا بد من أن يدرك المصريون بحكوماتهم الحديدة أنهم يعيشون في بلد أكبر من القاهرة، وأنه بلد متنوع ثقافيا ودينيا وأدعي أنه متنوع عرقيا أيضا.
هذا التنوع أو أزمة الجغرافيا، لا بد وأن تحل بشكل واضح في الدستور الجديد بعبارات واضحة تعترف بهذا التنوع. دستور يقول صراحة إن مصر ليست القاهرة وحدها، وقد كتبت كثيرا عن ديكتاتورية القاهرة وديكتاتورية المجتمع النهري. عبارة واحدة في الدستور تحل المشكلة، تؤكد أن الدولة المصرية تعتمد تنوعها الجغرافي والثقافي كواحدة من أهم دعائم قوة الدولة وتلتزم نظاما يجعل المقاطعات تختار من يحكمها من خلال انتخابات حرة وتوزع ميزانية الدولة على المقاطعات طبقا لتعداد السكان مع تصحيح لخلل التنمية في بعض المناطق مثل سيناء وجنوب الصعيد والواحات للعشرين سنة القادمة.
الهدف من هذا هو تفادي الثورات القادمة التي قد تأخذ أشكالا مختلفة. في 30 يونيو لم يخرج القطر كله كما يدعي البعض، بل خرجت القاهرة والإسكندرية والمنوفية والمحلة والمنصورة والسويس وبعض المنيا وبعض أسيوط. في الموجة القادمة قد تخرج سيناء وجنوب الصعيد والواحات، ولكنها ربما لن تخرج بالشكل السلمي الذي رأيناه في 30 يونيو، ولكنها وبعد هذا الشرخ الوطني قد تخرج في صور تمرد مسلح كما نرى في سيناء. هنا يكمن الخطر. لذا أخذ الجغرافيا في الاعتبار كأساس لاستقرار نظام الحكم ضرورة وطنية ملحة.
أعرف أن سردا كهذا لا يروق لأهل الحكم في القاهرة، ولا حتى أهل المعارضة أو شباب الثورة، وذلك لأنهم ترعرعوا في جو ثقافي يقول إن مصر هي القاهرة «واللي مش عاجبه إما يخبط راسه في الحيط أو هو متطرف أو يعمل لصالح أجندة خارجية تريد تفتيت الوطن». هذا النوع من الردود لن يفيد كثيرا بعد كل هذه الموجات الثورية فالمصريون اليوم غير المصريين بالأمس.
أعرف أن للقاهرة غرورها وبريقها، ولكن يجب ألا يستمر حتى لا تغرق القاهرة ويغرق معها الوطن. الدول الأكبر والأحدث والأهم من ألمانيا إلى بلجيكا إلى بريطانيا إلى أميركا وأستراليا كلها تناقش أزمات الهوية الوطنية وأزمة الجغرافيا، ولكي يصدقوا وهم العالم الافتراضي والتواصل عن طريق «تويتر» و«فيس بوك». هم يعرفون أن الجغرافيا مشكلة، ويعرفون أيضا أن الجغرافيا هي الحل. فلماذا نرفض ما ثبت نجاحه في دول أكثر تقدما؟