منذ ان غادر القصر الرئاسي في سيدي بوسعيد بالعاصمة التونسية, وخصوصاً منذ أن «عاقبه» الشعب التونسي وأهال التراب على مستقبله السياسي وحَرَمَه التمثيل في مجلس النواب, بل كانت هزيمته القاسية في مربعه «الديموغرافي» الذي حاول تحريضه جهوياً على باقي المناطق التونسية, فإن الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي, ما يزال تحت وطأة الهزيمة التي لحقت به وانحسار الاضواء عنه, على نحو يبدو الرجل فيه وكأنه فقد توازنه, فراح يبحث عن أي دور أو مناسبة لاستعادة مكانته المفقودة أو بعضاً منها, ظناً منه انه بعودته الى «المهنة» التي رفع رصيده السياسي والشخصي «منها», وهو النشاط في مجال «حقوق الانسان», الذي «اضطر» لممارستها في فرنسا (منفاه الاختياري), يمكنها أن تجلب له بعض الاضواء أو الاهتمام الاعلامي.. ولهذا ذهب ليشارك في اسطول الحرية رقم 3, الذي حاول نشطاء عالميون (وعرب) فيه كسر الحصار المفروض على غزة, وكان الهدف بالنسبة للمرزوقي دعاية شخصية واستثماراً سياسياً, وخصوصاً عندما اعتقلته قوات الاحتلال (هو وباقي المشاركين) وقامت بإبعاده الى فرنسا التي يحمل جنسيتها, فوجد الرجل في ذلك فرصة لإطلاق المزيد من التصريحات وطرح الشعارات الثورية فارغة المضمون, والتي لم يُكلّف الدكتور المرزوقي نفسه محاولة تطبيقها اثناء فترة رئاسته (المؤقتة), أو لنقل عندما جلبته (اقرأ وظّفته) حركة النهضة الاسلاموية الى موقع الرئاسة, لاستخدامه ورقة توت وقِناعاً لتمرير برنامجها السياسي, الرامي في الاساس الى «القبض» على السلطة والتحكّم بمفاصلها وجعل تونس مركزاً رديفاً وساحة خلفية للانظمة الاسلاموية الجديدة, التي كانت الخطة الاميركية التركية تقضي بتمكينها من الوصول الى السلطة في مصر وليبيا واليمن وخصوصاً سوريا, على أن يكون مرشدها الروحي «الاقليمي» هو السلطان العثماني الجديد رجب طيب اردوغان.
ادرك المرزوقي بحسّه السياسي الانتهازي أن الحفاظ على مستقبله السياسي يوجب عليه أن يخضع لمشيئة «الغنوشي» وأوامره, فاختار ذلك طواعية وذهب بعيداً في المزايدة عليه (ولكن في إطار الاهداف الاسلاموية ذاتها) فراح يُنَظّر للثورة على الانظمة ويدعو للانقلاب عليها ويوفر الاجواء والمناخات والامكانات لتصدير «الجهاديين» الى سوريا عبر حدود حليف سيده الغنوشي.. السلطان التركي، حتى بات عدد الجهاديين التوانسة لدى داعش وجبهة النصرة هو الاكبر بل «الأول» في عِداد جموع التكفيريين الذين يزرعون الموت والخراب والدمار ويسفكون دماء السوريين والعراقيين.
ماذا عن محاضرة الرئيس التونسي السابق؟
تفكيك نصوص المحاضرة التي القاها المرزوقي في العاصمة المغربية الرباط بدعوة من (منظمة غير حكومية) تسمى منتدى «الكرامة لحقوق الانسان»، يُفضي الى نتائج متناقضة، وهي ان الرجل الذي فقد منصبه ومستقبله السياسي (تفكّك حزبه وانقسم ثم لفرط يأسه قام بتشكيل حزب جديد يُجمع المراقبون في تونس انه غير مهيأ للإقلاع, ما بالك بالتمثيل لاحقاً في مجلس النواب؟) لم يُغادر مربع «الرطانة» التي اقام فيها طويلاً, وهي إطلاق الشعارات البرّاقة والأحكام العمومية التي تجلب اهتمام السذج والمتحمسين, لكنها لا تطرح بدائل ولا تعتمد على الجمهور العريض في إنجاز «مهمات» وثورات, كتلك التي يُكثر المرزوقي من الدعوة إليها بين جملة واخرى، كأن يقول (متأخراً بالطبع) إن «كل الاحلام التي جاء بها الربيع العربي ذهبت ادراج الرياح» دون ان يقول لنا مَنْ الذي يتحمل مسؤولية قانونية واخلاقية كهذه، اليس هو مثلاً احد الذين اسهموا في اجهاض هذا الربيع الذي انطلق من تونس عندما تحالف مع الاسلامويين او عينوه في خدمة مشروعهم المشبوه؟ ولهذا حاول-دون نجاح-تبرير سلوكه الراهن عندما قال: «الثورة التونسية لم تفشل، لكنها تعيش مرحلة جزر وستعود الى مرحلة المد»، بمعنى ان المسكوت عنه في قول الرئيس السابق, هو ان هزيمته وتراجع شعبيته حزب سيده الغنوشي (حركة النهضة) ليس سوى مرحلة مؤقتة، أما كيف سيكون المدّ فأغلب الظن ان الرجل «خاف» ذكر اعتماده وحلفائه على الارهابيين والانتحاريين والتكفيريين الذين يضربون في تونس.
اللافت في محاضرة (اقرأ ترهات) المرزوقي, أنه يواصل مغازلة الاسلامويين ويربط مصيره السياسي (الآفل كما يجب التذكير) بهم, مُراهناً على إمكانية عودتهم الى الحكم، كي يُعيدوا «تعويمه» «.. ان الربيع العربي تحول الى كابوس في سوريا واليمن وثورة مضادة شرسة ستدفع مصر الى نوع من الحرب الاهلية».. هي بشرى المرزوقي الى مصر السيسي الذي يصفه بأنه مسكين «ارثي لهذا المسكين المسمى السيسي, عندما يعتقد انه بامكانه ان يُعيد الشعب المصري الى بيت الطاعة».
مَن الذي سيُعيده اذاً؟ بالتأكيد يقصد جماعة «الاخوان المسلمين» ورئيسهم المخلوع محمد مرسي, ولهذا فانه يُغلِّف هجومه الهابط بالدعوة الى «مُصالحة وطنية في مصر وحلّ سياسي في سوريا», لكن وهنا يتقمص دور الحكيم».. اذا واصلوا طريقهم فان التاريخ لن يرحمهم».. خَتَمَ فاقد المنصب الذي لم يَحلُم به.
فعلى من يتلو المرزوقي.. مزاميره؟