معن البياري
ليست شطحةَ خيالٍ عابرةٍ لدى الشاعر اللبناني، أُنسي الحاج، بل تبدو قناعةً في مداركِه، لمّا طالب بحكم فاشستيٍّ في بلده، جهر بها، صراحةً، في مقالةٍ شديدة الاستثنائية من كاتبٍ في وزنه، وشاعر اعتنى طويلاً بالحرية، نشرها الأسبوع الماضي في “الأخبار” البيروتية. كتب فيها إِنَّ بلداً سائباً، (بتعبيره)، كلبنان، لا يُقوّمه غير دكتاتور، وإِذا أُريد للبنان أَن يصبح دولةً، فلا بد له من جكم فاشستي. يرى صاحب الريادة المهمة في القصيدة العربية الحديثة أَنَّ على مواطنيه أَنْ لا يجزعوا من الخطر الفاشي الذي تمثل سابقا في بشير الجميل، ويُجسده اليوم ميشال عون، لأَنَّ حكماً تسودُه الفاشية سيُخضع اللبنانيين الزعران، وتتخلص البلد من فاشلين، يستجدون وجودهم من طوائفهم، و”الدكتاتورية تبني دولة، ونحن اللبنانيين بحاجةٍ إِلى دولة”.
والبادي أَنَّ أُنسي الحاج، في مقالته غير القصيرة، يُعبر عن يأسٍ مفرطٍ من بؤسِ حالة الدولة اللبنانية المخلعة، ومن الانقسام الحاد والممل بين تكتلي 14 آذار و8 آذار، و”الخاوي من أَيِّ مضمونٍ ومعنى”، ويُعبر، قبل ذلك كله وبعده، عن يأسٍ كثيرٍ من نفوذ الطائفية المقيتة لدى الطبقة السياسية في لبنان، ومن عدم تبين أُفقٍ منظورٍ لخروج البلد من هذا الحال.
هل أَخطأَ أُنسي الحاج، أَو وقع على الأَنفع، أَو أَصاب في وصف الداء ولم يحسن وصف الدواء، على ما انتقده الشاعر نوري الجراح؟. لماذا يُورّط نفسَه في أُطروحةٍ عويصةٍ مثل الفاشية حلاً في لبنان، وهو غير مطالَبٍ بالتجوال في تجارب الأُمم والدول وانتقالات الحديثة والمتقدمة منها إِلى أَطوار الديمقراطية الحقّة واحترام الفرد، وقد اكتفى بالإتيان على نابليون بونابرت وشارل ديغول؟
كان في وسعه أَنْ ينظر في معمر القذافي وصدام حسين، مثاليْن على الدكتاتورية الشنيعة، وكيف أَخذا ليبيا والعراق إلى القيعان التي رأَينا ونرى، بل وإِلى احتلال أَميركيٍ واستنجاد عسكريٍّ بالخارج لإنقاذ البلد من حكمٍ زاد على الاستبداد المكشوف تفاهةً غير مسبوقة.
كان يمكن للشاعر اللبناني أَنْ ينظر إِلى سوريا، جارته التي تمكث فيها الدكتاتورية الشمولية، والقمعية الإجرامية، منذ نحو خمسين عاماً، ومن الصعب التسليم أَنَّ ثمة دولة هناك، طالما أَنَّ الطائفية في ذراها الآن، وقبل الآن، وطالما أَنَّمن نواتج هذه الفاشية التي اشتهى شاعرُنا لبلده مثلها، وإِن لم يصرح بذلك، ما نُعاين في سوريا من خرابٍ أَهلي وتحطم للعمران والبنيان، وقتل بلا أَيِّ حساسية.
ليست هذه السطور معنيةً بما يحتاجه لبنان للشفاءِ من وباءِ تذرّر الدولة فيه، ولا كاتبها قادر، هنا، على اجتراحِ وصفةٍ لذلك، وإِنما تنتبه إِلى ما أَخذ الاستعصاء المتفشي في هذا البلد شاعراً يشتغلُ على الحرية وقيمها، وعلى الإِنسان ووجدانه، وعلى الحب والجمال، إِلى اشتهاء لو أَنَّ بشير الجميل حكم لبنان ثلاث سنوات، ولو أَنَّ دكتاتوراً فاشياً “يضبط الموظفين مدة في الزمن”، لأَنَّ هذا الحاكم سيمضي، لكن الدولة التي سيرسيها تكون قد قامت.
يأْخذ أُنسي الحاج اللبنانيين، في مقالته، إِلى هذا المطرح، ويأخذنا، نحن غير اللبنانيين، إِلى التخفف من التقسيمات الرتيبة بشأن لبنان، حين نعمد إِلى مقاربة ما يجري فيه من عبثٍ. لا تسعفنا الأَدوات إِياها لفهم عجز تمام سلام عن تشكيل حكومةٍ منذ نحو ثلاثة شهور، ثم يقترح شاعر، بالغ الرهافة والحساسية، صيغةً صادمةً لنفهم هذه الأُحجية، وكثيراتٍ غيرها.