من الطبيعي ان يتحدث المواطنون في مجالسهم عن تنظيم الدولة الاسلامية ( داعش ) كخطر محدق يتهدد حياتهم وأمنهم ومستقبلهم كما وقع في بلاد مجاورة، وأن يختلفوا في تقدير حجم هذا الخطر ومدى اقترابه أو ابتعاده عن حدودنا فنجدهم احيانا يعربون عن اطمئنانهم للاستعدادات المتخذة لمواجهته واحيانا لا يملكون اخفاء شكوكهم في القدرة على صده لو جاء مباغتاً ولا يتورعون عن الجهر بمخاوفهم من تواطؤ كامن في داخلنا ! وعند الحديث عن اسباب نشوء هذا التنظيم المتطرف يقول بعضهم كلاماً منطقياً يتفق وتسلسل الاحداث فيحللون مثلاً الظروف التي أغرت كثيراً من شبابنا المتدين بالانضمام لتنظيمات ارهابية في دول اسلامية عديدة كالقاعدة وطالبان والنصرة وجيش محمد وانصار بيت المقدس وحركة الشباب وبوكو حرام وصولا آخر المطاف الى داعش.. وكلها تدعي الحق في حمل راية (الجهاد) وفقاً للمبادئ المتشددة التي دعا لها الاوائل مروراً بإبن تيمية وابن عبد الوهاب وابي الاعلى المودودي وسيد قطب. وعند التوسع في الحديث يتجرأ البعض على الاشارة الى أن هؤلاء الشباب كانوا منذ نعومة اظفارهم جاهزين لغسل ادمغتهم بسهولة نتيجة للتربية البيتية الوارثة للتعصب والجهل، ثم جاءتهم المناهج في المدارس زاخرة بما يحض على كراهية الآخرين من اصحاب المذاهب والمعتقدات الدينية المختلفة، ومغاليةً في الافتخار بالماضي وضرورة العودة لنموذجه بعد إخفاء آلاف من صفحاته التراثية الموثقة التي تصف بلا مواربة كيف جر التعصب الى تكرر الاحتراب بين المسلمين انفسهم واضطهاد اصحاب الرأي المخالف حد الاغتيال وتكفير بعض الصحابة للبعض الآخر..!
كما تبرز في تلك الاحاديث آراء منطقية أخرى تربط بين ما يجري في هذه المنطقة وبين دول أخرى لها مصالحها واطماعها ولا تريد لهذه الشعوب (ولا لغيرها من الشعوب) الخير والتقدم فتسعى من وراء الستار ومن خلال اجهزتها الاستخبارية لدعم الفكر الديني المتطرف وتشجيع إنشاء التنظيمات الارهابية ومساعدتها في التخطيط والتدريب وتزويدها بالاموال والسلاح ولا احد ينكر بالطبع علاقة اسرائيل بالضلوع فيما يجري لأنه بالتالي وحتماً يخدم مصالحها الاستراتيجية..
أما المثير للشبهات فهو ما يذهب له بعض آخر في الحديث عن داعش وانخراط الشباب في تنظيمه بالتماس الاعذار لهم والايهام بأنهم تطرفوا وحملو السلاح لأنهم فقدوا الأمل بعد أن فشلت أنظمتهم في حل مشكلتي البطالة والفقر بينهم ولم تحارب الفساد المستشري في اداراتها، وكأن ذلك اكتشاف خاص باولئك الشباب لا يدركه باقي المواطنين بصرف النظر عن مللهم ومعتقداتهم الدينية وأن الفشل حكر على حكومات الدول العربية او الاسلامية وليس موجوداً في العديد من دول العالم التي تعاني شعوبها الأمرين فتناضل باشكال مختلفة من اجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان ومع ذلك لا نجد عندها في الاغلب الأعم جماعات ارهابية تقتل الغير.. باسم الدين !
وتفتضح هشاشة هذا التفسير وينكشف انحيازه الضمني لداعش عندما تبدو على اصحابه علامات الفرح والافتخار وهم يصفون انتصاراته وكأنها فعلا انتصارات المجاهدين الجدد باعدادهم القليلة على جيوش كبيرة، او ينتفخون زهوا حين يعددون مليارات الدولارات التي يحصل عليها من بيع الثروات الطبيعية كالبترول ويغفلون بالطبع نهبه لممتلكات ومزارع السكان المروَّعين، ومتاجرته بالآثار المسروقة وبالمخدرات احيانا، ولا يخجلون من أن يذكروا بالتقدير العالي قدراتها الالكترونية وانتشاره المتنامي على الانترنت والتأييد المتزايد التي يتلقاها من الملايين على صفحات التواصل الاجتماعي ولا يتوقفون لحظة واحدة عند الجرائم البشعة التي يرتكبها هذا التنظيم في حق «الرعايا» خصوصا من اهل الذمة ومن اكثر الأمثلة هولاً قطع رقاب عمالٍ فقراء من الاقباط المصريين والاثيوبيين في ليبيا ! واغتصاب النساء في العراق من الطوائف غير المسلمة كالازيديين والسريان والاشوريين أو بيعهن في سوق العبيد الجديدة في الدولة الاسلامية ! وفوق ذلك تحظى هذه الجرائم بتغطية اعلامية بالغة الاتقان تدل على وجود كفاءات وخبرات لا تتوفر الا في دول متقدمة !
وبعد.. فان احاديث الناس عن داعش تطول وتمتد وسط قلق حقيقي مشروع وفزع ظاهر أو مكتوم، ولا غرابة والأمة في حالة من الضعف المهين أن تشخص الابصار لما يجري على الساحة الدولية من متغيرات سياسية لعلها تؤدي، فيما تؤدي، الى انفراج يعريّ بعض المواقف.. ومن وراءها.