بكر عويضة
صباح أول من أمس، الثلاثاء 16 الحالي، قرأت على موقع «غزة الآن» ما يلي: «.. وأكد الغصين أن أجهزة أمنية تتبع لحركة فتح تقوم بمساعدة الإعلام المصري في اختلاق الروايات الكاذبة ضد غزة، وتزويده بالأسماء بإشراف القيادي السابق فيها (...)». توضيح أولي: السيد (الغصين) اسمه الأول (إيهاب). كما فهمت من الموقع، «الناطق باسم الحكومة الفلسطينية ورئيس المكتب الإعلامي الحكومي». بالطبع، كما يعرف الجميع، المشار إليها هي حكومة السيد إسماعيل هنية.
ما «الروايات الكاذبة» في الإعلام المصري «ضد غزة»؟ قصة تتفاعل من قبل تحرك الجيش وعزل الرئيس محمد مرسي، خلاصتها، كما صار معروفا، اتهام «حماس» بالتدخل في شأن داخلي يخص المصريين.
من يكذب ضد من؟ بدءا، المقصود هو الكذب والتكاذب السياسي. فالرمي بصفة الكذب ليس من حق أحد بلا بينة توثق الزعم. ثانيا، سؤالي ليس بخصوص ما يتردد في القاهرة من مزاعم صحافية تخص حركة حماس. ثالثا، هذه ليست أول أزمة حمساوية - مصرية من نوعها، والتراشق بالاتهامات حصل مرات عدة.
قصدت بالسؤال الفصيلين صاحبي التأثير الأهم في حاضر الفلسطينيين ومستقبلهم، وندع الماضي جانبا، الآن. يهمني القول إنني أكتب من دون اصطفاف مع أي طرف. لست مضطرا لذلك. ثم يجب الإقرار بسجل مشرف لكلا التنظيمين، وغيرهما، يتضمن العطاء المتواصل ضمن مسيرة النضال لتجديد أمل الفلسطينيين باستقلال دولة لهم. كل ذلك حصل، بلا شك، فما الذي يجعل قيادات هؤلاء وأولئك يفعلون، في لحظة ما، ما يحلو لهم من دون أخذ ذاك الأمل بالحسبان، لماذا عند غير مفصل تاريخي يخص شعبهم وضع معظم زعماء الفلسطينيين حسابات تنظيماتهم على رأس الموازين؟
ثمة تحامل في التعميم؟ ربما. لكنني لا أزال أذكر، ويصعب علي أن أنسى، تبادل قصف فلسطيني – فلسطيني عبر ما يعرف بلغة التعميم التنظيمي، أي المنشور السري الخاص بكوادر التنظيم، الذي سرعان ما كان يجد طريقه إلى العلن، فيقرأ أي مراقب محايد بين سطور تلك التعاميم نذر احتمال انفجار يقترب. هل ثمة ضرورة للعودة إلى ما شهدته شوارع عمان 1970 وجبالها قبل أن يسيل الدم في (أيلول)؟ أم نعبر دمشق سراعا إلى بيروت، فأولاهما ليست بمستقر إلا لكبار الزعامات، بينما بفكهاني الثانية، يمكن تجريب طعم فواكه الحكم؟ هل ضروري الآن فتح صفحات ما جرى في حروب مخيمات لبنان بين إخوة الدم ورفاق السلاح، فقط كي نتفق على قدم ذبح الفلسطينيين بعضهم البعض؟ مؤكد أن الفلسطينيين ليسوا وحدهم من اكتوى بنار الحروب الأهلية، يكفي النظر لما جرى منذ منتصف التسعينات حتى الآن، في غير بلد عربي. مع ذلك، لن يعجب هذا التذكير كثيرين. لا بأس. خذوا راحتكم، افهموا الأمر كما تريدون، اتهموا كما شئتم، يمكنني اقتراح صيغة من عندي. مثلا: هذا كلام يريد تكريس الشقاق، كيف يجرؤ أحد ما فيذكر بما جرى في زمن تولى، فقط كي ينال مما تحقق من نصر تلو آخر.
جيد، إنما يبقى السؤال: أجادون أنتم، بجد، عن جد، كما يقول بسطاء الناس، في إنهاء انفصال بدأ نهار الجمعة 15 يونيو (حزيران) 2007؟
عذرا، أشك في ذلك، والسبب بسيط جدا، خلاصته أن بساطة حل أي مشكل، تكمن في تجنب تعقيد سبل التفاهم. لم تكن حركتا حماس وفتح طوال السنوات الست الماضية، بحاجة لأكثر من جلسة واحدة ينظر زعماء كل منهما إلى ما يجمعه بالآخر، لا ما يفرقه عنه، ولا أظن أن أي الفريقين سيحتاج كثير زمن ليكتشف أن ما يجمع أكثر مما يفرق، ثم إن ما يجمعهما يتفق مع مجموع شعبهما. أهو ساذج ذلك الظن، أم تراه يندرج في قائمة الإثم؟ لا أدري. إنما أعرف أن بأرشيف ذاكرتي جلسة غداء بأحد مطاعم منطقة «نايتسبردج» الفاخرة، تعود إلى صيف 2008. كانت دعوة تكرم بها زميل صحافي معروف يعمل – زمنذاك – بصحيفة عربية في لندن، للقاء مع سياسي فتحاوي شهير. بالطبع، جرى الحديث بتوسع عما حصل في غزة قبل سنة من جلستنا تلك، فالتقينا حول بضع نقاط، وتباين الرأي بشأن أخرى. في الطريق إلى فندق «كارلتون»، مقر إقامة الضيف، قلت إن الرئيس محمود عباس كان بوسعه الانتقال إلى غزة، فور بدء أحداث يونيو 2006، وحتى بعد إحكام «حماس» سيطرتها، وكان من شأن ذلك الحيلولة دون تكريس الانفصال. لا أنسى كيف أجابني الضيف وقد توقف عن المشي، ناظرا لي عينا لعين، ليقول ما مضمونه: أتريد الحق؟ قلت: بالتأكيد. قال: لا أحد يريد غزة، هذه هي الحقيقة. قلت: لكن حركة «حماس» أثبتت أنها تريدها، وقد أخذتها، فماذا أنتم فاعلون؟ لم يجب بشيء.
مضت ست سنوات، شهدت عدة لقاءات قيل إنها لإتمام مصالحة وإنهاء انقسام. لم يتحقق شيء. ها هي «حماس» ترد على «روايات كاذبة» يلفقها بعض إعلام مصر، كما تزعم، ضدها. ذلك حقها ليس لأحد أن يسلبها إياه. بالمقابل، أليس من حق الناس التساؤل: أجادون يا معشر «حماس» و«فتح» حقا في إنهاء انفصال؟ ذاك تساؤل على ألسنة كثيرين، لكن ما سأضيف هو من عندي، كي أتحمل مسؤولية ما أقول: أما إن كنتم عاجزين عن الحل، أوليس الأفضل لكم ولكل الناس إعلان ذلك بوضوح يجهر بقبول حل الدولتين، لا الفلسطينية والإسرائيلية، بل دولة رام الله ودولة ضرتها المقالة في غزة. ما المشكلة؟ لن يكون الفلسطينيون أول شعب بدولتين، لعلهما تتحدان في مقبل الأيام، على أيدي جيل أكثر قدرة وأقل أنانية؟ سؤال وإضافة تبقى الإجابة عنهما برحم غيب آمل أن يثبت خطأ تشاؤمي، لكنني آثرت الصدع بما شعرت أنه واجب، بصرف النظر عما قد يجلب من متاعب.