نحبس أنفاسنا حين يذكر اسم طوني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، شريك جورك بوش الابن في الحرب القذرة على العراق ومعاونه في فبركة وتزوير القرائن والأدلة حول «أسلحة الدمار الشامل» العراقية وصلات صدام بالقاعدة، الرجل المطارد من قبل الرأي العام البريطاني بتهم تتعلق بجرائم حرب، والذي منحته واشنطن «مكافأة نهاية الخدمة» بتعيينه موفد الرباعية الدولية إلى المنطقة. سنوات قضاها طوني بلير في رام الله، رفقة الجنرال الأمريكي كيث دايتون، في محاولة لخلق وتعميم نموذج «الانسان الفلسطيني الجديد»... ذاك النموذج الذي يقوم على سبعة أعمدة، تذكر بأعمدة الحكمة السبعة للورانس العرب: فلسطيني كاره للمقاومة ثقافة واقتصاداً ونمط حياة وأدوات كفاحية ... فلسطيني مثقل بالكمبيالات والفواتير والقروض ... فلسطيني يرى العدو متجسداً في حماس والجهاد وليس في إسرائيل ... فلسطيني مؤمن بأن أمنه من أمن إسرائيل ... فلسطيني يكره ثقافة المقاطعة ويتفاخر بقدرته على اختراق حواجزها والانخراط في «التطبيع» مع الاحتلال والاستيطان ... فلسطيني متخفف من عروبته وخجل بتاريخ شعبه الكفاحي ... فلسطيني مهجوس بتفوق شعب الله المختار، ومؤمن بنظرية الجيش الذي لا يقهر، ومسلم بقضاء إسرائيل وقدرها. اليوم، يطل علينا طوني بلير من جديد، ولكن على جبهة أخرى، جبهة غزة، ومن دون أن تكون له صفة رسميةهذه المرة، فالنجاحات الكبيرة نسبياً، التي حققتها الرجل في الضفة الغربية، تشجعه على التكرار في غزة، حتى وإن تطلبه ذلك حمل طموحه هذا إلى خالد مشعل في الدوحة، وتجشم عناء الوساطة بين إسرائيل وحماس وصولاً لتهدئة مستدامة، توفر الوقت والفرصة، لتعميم تجربة «الانسان الفلسطيني» في قطاع غزة. غادر الرجل وظيفته في الضفة، مجللاً بالفضائح، تماماً مثلما غادر موقعه كرئيس للوزراء البريطاني في أعقاب الحرب على العراق ... كان ناطقاً بلسان الاحتلال وموفداً للحكومة الإسرائيلية، وليس للرباعية الدولية ... لعب دور السمسار فجمع ثروة من ملايين الدولارات جراء خلطه المتعمد بين مهام منصبه ومصالح التجارية ... عمل موظفاً لدى بعد الدول الخليجية، ومستشاراً ومروجاً لمشاريعها في المنطقة ... واليوم، لا ندري ما المسافة التي تفصل الرجل عن الدوحة، وما إذا كان يتحرك على خطوطها بين حماس وإسرائيل، بصفة شخصية، أو بوصفه مبعوثاً قطرياً، فالرجل الذي قبل أن يقدم النصح والمشورة للنظام المصري الحالي، نيابة عن دولة الإمارات وموفداً من قبلها، لن يتردد في التعاقد مع قطر للقيام بأدوار أخرى وعلى جبهات أخرى، المهم أن يكون العقد مجزياً. المؤسف أن الرجل الذي غادر الضفة مصحوباً بكثير من مشاعر الاستياء حتى من قبل القيادة المتورطة في «نهج المفاوضات والتنازلات»، يُستقبل اليوم من قبل قيادة حماس في الدوحة وغزة، بكثير من الترحاب ... وقد تنعقد على يديه غير الكريمتين، صفقة التهدئة المستدامة في القطاع ... ولا أدري ما الذي يخطر ببال قيادة حماس، وهل يعتقدون أن الرجل الذي باع سلطة رام الله لإسرائيل، يمكن أن يشتري سلطة الأمر الواقع في غزة، أم أنه سيقدم على بيعها بأي ثمن، وعند أول مزاد علني يُفتتح لهذه الغاية؟ صفقة التهدئة المستدامة، تبدو في طريقها للتبلور، والأرجح أنها كانت في قلب محادثات وفد حماس في أنقرة خلال الساعات الفائتة ... وثمة حماسة قطرية بالغة، قديمة – متجددة لإتمامها، وربما من ضمن مشروع لإعادة تأهيل حماس وتعميم سلطتها على الضفة بعد غزة، وفي سياق مشروع قطري قديم نسبياً، وعلى قاعدة التحالف بين المال القطري والشارع الإخواني التي تحدثنا عنها في مقالة الأمس. يطوّف طوني بلير بين العواصم، ويلتقي بقادة سياسيين وأمنيين في مصر والأردن وإسرائيل والسعودية وتركيا، وهو يسعى في الترويج لمبادرته بالتهدئة المستدامة، وربما تنعقد على يديه الصفقة، فهو الموفد القطري الأنسب والأكفأ لإنجاز هذه المهمة، وهو الموفد الأقل كلفة على أية حال، سياسياً ومالياً ومعنوياً، مهما بلغت فاتورة الأتعاب التي سيتقدم بها إلى «مُشغّليه».