يوم امس استمعت مرتين، وباهتمام يوشحه الحزن، للفنان التونسي لطفي بشناق وهو ينشد اغنيته الباكية مرثية وطن بعنوان: «انا مواطن» والتي يقول فيها: «لا حروب ولا خراب ولا محن، خذوا المناصب والمكاسب لكن خلولي الوطن».
اقول للفنان المحزون، ولكل مواطن عربي: يا ليت بقيت الامور في حدود المناصب والمكاسب، ولكن المحزن ان تجار الحروب والسلاح الخراب والموت المجاني، سرقوا الوطن والزمن وأغرقونا في مستنقع الفوضى والحروب والخراب والمحن، ولم يتركوا لك او لغيرك الوطن الآمن المستقر الذي تعيش فيه بسلام، او تحلم به. وفي غياب الوعي والعقل، وفقدان الارادة والسيادة، تم هدر الاموال، وسفك الدماء، وتخريب البيوت، وتقويض الانظمة، وتفكيك الدول، في أكبر عملية تدمير ذاتي، حتى انهم شوهوا الايمان المقدس باستحضارهم واستخدامهم العامل الديني في حروب اهلية لها اهدافها وارتباطاتها بالخارج.
واليوم، بعد خراب البصرة، كما يقال، ادرك الفرقاء وكل المعنيين ان الخيار العسكري قد فشل في تحقيق المشروع الاقليمي الجديد المشبوه، لذلك قد يتم اللجوء الى الخيار السياسي لتحقيق التغيير المنشود، او تحقيق ذلك الهدف او بعضه، وعبر دفع فواتير تتجاوز فواتير السلاح والدم. ولكن المؤشرات تفيد ان الامور اصبحت اكثر صعوبة وتعقيدا، ان لم نقل استحالة الحل الواقعي المقبول، خصوصا بالنسبة للمسألة السورية، التي ما زالت تشكل «عقدة النجار « امام المبادرات والجهود المبذولة، لأسباب سياسية تحركها احقاد دفينة وعقيدة ثأرية تغذيها عوامل بيئية اجتماعية وطبيعية.
الثابت تاريخيا وواقعيا ان عقارب الساعة العربية لن تعود الى الوراء في كل الاقطار المعنية، وأن الاوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية العربية قبل الاعصار ستكون غيرها بعده. واعتقد انه سيتم تغيير مسيرة التحرر العربي بشكل جذري.
نحن الذين ولدنا في بداية النهوض العربي، أو رافقنا حركة التحرر الوطني في البلاد العربية، ندرك ان الشرعية الثورية اعتنقت عقيدة التحرر في حين اهملت، او غيبت، مسألة الديمقراطية والحريات العامة، كما حالت دون تحقيق التعددية في الحياة السياسية، لذلك منعت نشوء الاحزاب، أو قيام دولة المؤسسات، فانفردت القيادات الثورية بالسلطة باسم الشعب، وتحت عنوان الضرورة الوطنية، وخوفا من الثورات المضادة، وهو قلق مشروع في حينه. الا ان هذا الواقع اوقف حركة التطور التاريخي، واحدث ثغرات كبيرة في بناء الدولة، واضعفها في مواجهة التحديات الكبرى، وبالتالي قاد الى الانكسار والفشل في معظم الاوقات.
ولكن، المشهد الراهن لا يمنحنا شيئا من التفاؤل حتى الآن، فالتغيير الذي حصل اعاد المجتمعات الى عصر ما قبل قيام الدولة، وغلف المشهد برمته بلباس وحشي همجي بعيدا عن القيم الانسانية والتقاليد العربية، وكل هذه الكتل التي تتحرك داخل مهرجان القتل والذبح والتخريب العشوائي، هي مخلوقات مشوهة تكونت وولدت خارج رحم الامة صاحبة الرسالة الخالدة، وعملت على اغتيال التاريخ وتدمير حضارات، وعلى حساب تنمية المجتمعات العربية.
هل حاول احدكم ان يحسب بالقلم والورقة، كم كلفت حروب التدمير والتخريب والارهاب ؟! او كم ستكلف عمليات اعادة الاعمار من المال العربي ؟ لا شك ان الارقام ستكون فلكية، بحيث ستتوقف، نتيجتها، كل عمليات التنمية في البلاد العربية التي ستكون غارقة في الديون، ولعقود طويلة مقبلة، نعرف بدايتها ولا نعرف اين وكيف تنتهي.