الناس في قطاع غزة باتوا تواقين للخلاص من الوضع المزري والسعي للتغيير والبحث عن احتياجاتهم اليومية وحقوقهم المحرومين منها عن عمد، ومن حال البؤس والشقاء وفجور الظلم والحرمان وغياب الأمل بتحقيق أي من حقوقهم، والفقر المستفحل لدى غالبية كبيرة منهم، والأزمات المتلاحقة والكل يتحدث عن حل لأزماتها ولا أحد يقدم حلول جوهرية وحقيقية، الناس لا يعنيهم إن كان الوسيط سيئ الصيت والسمعة توني بلير أو جيمي كارتر أو العمادي أو أي شخصية أجنبية أو عربية. والسؤال المهم من الذي أوصل الناس لهذا الحال من اللا مبالاة والبحث عن الخلاص، وهم من قدموا التضحيات و الغالي والنفيس ومستعدين لتقديم المزيد؟ استمرار الانقسام وحال الإنكار الذي تمارسه حركتي حماس وفتح والمصالح الحزبية الضيقة وغياب اليقين وعدم الثقة بأي جهة سياسية سواء كانت حماس أو فتح أو باقي الفصائل. منذ تسع سنوات والناس ينتظرون الأسوأ مع استمرار الحصار ودورات العدوان التي لم تتوقف و الحرب القادمة، ومزيد من الدمار والخراب والشهداء والأرامل والمصابين والمعاقين والمشردين والفقراء الجدد الذين يستجدون لقمة العيش، بدلاً من أن تؤمن لهم السلطة وحركة حماس لهم العيش الكريم؟ يدرك الناس خطورة هدنة طويلة الأمد وهي بدون أفق سياسي و ستكون بثمن سياسي مهما أنكرت حماس، و سنوات الحصار الماضية والمعاناة التي يعيشونها أفرزت إحباطات كبيرة في ظل غياب الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان و العدالة و التمييز وعدم المساواة في الحقوق والواجبات وعدم تكافؤ الفرص وندرتها، وجعلت من الناس يبحثون في تفاصيلهم اليومية على حساب القضايا الوطنية. حماس تقول أنها موافقة على هدنة وهناك أفكار قدمت لها وان انفراجة قريبة قادمة و بدون ثمن سياسي، و أي تهدئة بدون رقع الحصار وفتح المعابر وإقامة ميناء ” ممر مائي” لن تكون تهدئة. حماس تسير على خطى حركة فتح و السلطة و تفاوض إسرائيل عبر وسطاء وبالقنوات السرية الذين قدموا لها أفكاراً راقت لها، و هي تسعى من خلال التهدئة لتخفيف الضغط الكبير عليها من الناس وترميم صورتها التي تضررت كثيرا معهم، والتخلص من الحصار والضغط و الابتزاز السياسي الممارس عليها، وكما أنها فرصة لتثبيت أركان حكمها والضغط على السلطة ومقايضتها. سواء كانت الهدنة قصيرة أو طويلة، فالناس لا يعنيهم شيء سوى الخلاص من هذا الحال، ولا يعنيهم تصريحات فتح واتهامها لحماس وتفردها في غزة، وفي فتح خطوط تفاوضية مع إسرائيل، فحركة فتح التي شنت هجوم على حماس و توني بلير ممثل الرباعية السابق و عرابها كان ولا يزال مرحبا به وضيف عزيز على القيادة الفلسطينية، وفتح تعتبر نفسها الوكيل الحصري والوحيد لأي تفاوض مع إسرائيل. حتى معارضة و نقد فصائل اليسار للهدنة فهي لم تقدم نفسها كبديل أو قوى ثالثة تستطيع من خلالها فرض شروطها، أو أن تشكل بيضة القبان في أي مفصل من مفاصل الخراب السياسي الذي تعيشه الساحة الفلسطينية. منذ عشرون عاما وفصائل اليسار تنتقد أوسلو وهي شريك في المنظمة وبعض من فصائله كان شريك في أكثر من حكومة من حكومات السلطة، وتحذيراتها من إنفصال غزة عن الضفة لم تتعدى التصريحات والشعارات والتعبير عن الخشية، كما السلطة التي قادت مفاوضات طوال العشرين سنة الماضية وعلى استعداد لان تقود مفاوضات جديدة والرئيس لم يمل من مد يده للسلام، والحديث عن قرب حياته السياسية والنظام السياسي مهترئ وعاجز. أي تهدئة بدون توافق وطني والعمل المشترك وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني بإنهاء الانقسام وترميم منظمة التحرير وإعادة الاعتبار لها ورفع الحصار وفتح المعابر ستكون هدنة هشة ولن تدوم، فالتجربة مع إسرائيل تقول أن ما يهمها مصالحها الأمنية وسعيها لتعزيز فصل القطاع عن الضفة وهي لم تتلزم بالاتفاقات وتجربة أسرى صفقة شاليط ماثلة أمامنا. طموح الناس وخلاصهم من حالهم البائس وحقهم بحياة كريمة وحرية وعدالة لا يعني أنهم مستسلمين لهذا الواقع المرير، هم يبحثوا عن الخلاص لكنهم لن يغفروا لمن يستغلهم أو يستغفلهم، أو يفرط بالثوابت و بالمشروع الوطني.11/8/2015 لم يعد الأمر يتعلق بالشفافية وبالصبر على أزمة الكهرباء المستفحلة في قطاع غزة فقط، فحياتنا عبارة عن مصنع أزمات عظيمة، ليس أخرها أزمة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" المفتعلة، أو أولها حديث الساعة في وسائل الإعلام الإسرائيلية وما يتم تناوله بالبحث والنقاش والتحليل عن من سيخلف الرئيس محمود عباس والمديح الذي تكيله له على مواقفه وتصديه إلى اندلاع أي احتجاج ضد الاحتلال وجرائمه، ومنع أي احتجاجات على حرق عائلة دوابشة، وهل سيستقيل أم سيبقى إلى أجل؟ ونحن لا نعلم شيء سوى ما تلقي به وسائل الإعلام الإسرائيلية لنا من أخبار، و ما يصلنا من أخبار الصالونات وما يتهامس به الناس و المصادر المجهولة والمعلومة والأخبار المتناثرة عن معارك صامتة والتحضير لمعارك قادمة وتغييرات جذرية في قيادة حركة فتح وترتيبات يقوم بها الرئيس لتقييف وتفصيل قيادة لفتح على مقاسه. لو توفرت النوايا الحسنة و الإرادة الحقيقية للتغيير والشعور بالناس والضنك الذي يعانونه لما عظمت مأساتهم كما هي عليه الآن، إذا هي ساعة الحقيقة في إدراك ان الناس لم تعد لديهم القدرة على الإحتمال وقواهم وهنت وصبرهم نفذ ويحاولون منح الفرصة تلو الفرصة للقيادة والفصائل ولا احد يعلم متى تندلع الشرارة والانفجار الكبير، وأي رهان على صبر الناس فهو خاسر وطبيعة البشر أنهم لا يستسلموا ولا يستكينوا، والشعب الفلسطيني حي وهذه الكبوة لا تعبر عن حقيقته وقوته وحيويته المثيرة وعطاءه الذي لا ينضب. ربما يكون هذا حلم لكن لا احد منا يستطع التنبوء بمزاج الناس وحركتهم وعدم قدرتهم على القبول باستمرار الظلم والقهر الذي يعانونه. والحلول الترقيعية والفردية في تدبير الناس لشؤونهم لن تجدي نفعاً، فالناس جربوا وحاولوا اجترار حلول فردية ونجحوا، لكنها حلول تعبر عن أزمة القيادة و المسؤولين وعجزهم عن توفير الحلول الخلاقة والإبداعية، ومن ارتضى ان يحكم الناس عليه تقديم تنازلات لصالحهم وليس لصالحه وصالح جماعته وحزبه ورؤيته. والقضية ليست متعلقة بالطعام والشراب والحد الأدنى من العيش، إنما هي العيش الكريم و الحرية والكرامة وسيادة القانون والمساواة والعدل. ساعة الحقيقة والشجاعة تقتضي من القيادة والفصائل و في مقدمتهم حركتي فتح وحماس بالاعتراف بفشلهم في قيادة الشعب الفلسطيني، وعدم قدرتهم على تنفيذ وعودهم للناس. والحديث الممجوج بتحقيق الانتصارات والتعظيم من أنفسنا وقدراتنا الخارقة على التغلب على عدونا قبل مشكلاتنا وأزماتنا المستعصية، ولدينا قدرة كبيرة على تبرير كل الأخطاء التي نرتكبها، كيف ذلك ولم نعترف مرة واحدة بهزيمتنا وفشلنا المريع على جميع الأصعدة، سواء في تجربتنا النضالية ومقاومة الاحتلال أو حياة الناس اليومية. القيادة والفصائل لم تفكر مرة واحدة في القيام بمراجعات حقيقية ونقد التجربة الطويلة أو فتح حوار ونقاش وطني عام للتعلم والاستفادة من التجارب و الخبرات السابقة، فاستمرا هذا الحال والتعامل بردود الأفعال وهي جاهزة وبقدرة عجيبة تصبح هي الحلول، هذا هو غياب العقل و الكوميديا السوداء الذي نعيشها، فالبحث في التفاصيل أكثر من البحث في القضايا الكبرى والانهيار الكبير في النظام السياسي الفلسطيني و منظومة القيم هو خطير ومؤشر لانهيارات أخرى. هذا يتم بفعل ومساهمة من أركان النظام السياسي الذي يقع على عاتقه النهوض بالقيم والمبادئ الوطنية وتعميمها والاستفادة من تجاربه السابقة. فإذا كان هذا حال النظام الذي أصبح من سماته عدم الثقة به، و هو المسؤول عن هذا الحال وعدم قدرته على ترسيخ منظومة القيم وهو من يمارس كل أشكال الاستبداد وعدم إيمانه بالآخر وعدم قبول النقد والرأي الآخر، ومتمرس حول فكرته ورؤيته لقيادة شعب تحت الاحتلال ويناضل من اجل الحرية بطريقة أقرب إلى الفنتازيا منها إلى إدراك حجم الكارثة. سنبقى سخرية للآخرين ونضحك على أنفسنا إذا ما تم إدراك ما نحن به من مصيبة ومستمرون بالقول أننا نحقق انتصارات عسكرية وسياسية ودبلوماسية، ونحن لم نستطع إدارة حياة الناس والواقع مأساوي و كارثي، وسلوك القيادة والفصائل يعزز من هذا الواقع.