قيل في لبنان الكثير وكُتب عنه أكثر، ومن فرط «عشق» كثير من العرب وبخاصة شبابهم ورهط المثقفين والسياسيين، شكّل هذا البلد «الفريد» الذي لم يتفق قادة طوائفه وملوك ميليشياته على هويته «النهائية» كبلد عربي أم أنموذج ملتصق بالغرب وقلعة متقدمة له، كما أراد «عنصرا» هويته، من المسلمين على اختلاف راياتهم وعمائم شيوخهم ومرجعيات ساساتهم , ام من المسيحيين الذين تُفرق بينهم المصالح والولاءات لعواصم الاقليم او عبر المحيطات اكثر مما تجمعهم بشركائهم في الوطن الواحد.. ومع ذلك، كان لبنان – وربما – ما يزال يشكّل «مختبر» المنطقة السياسي وحقل تجاربه ومركز اطلاق بالونات الاختبار فيه، ودائماً «المكان» الذي توجد فيه كل وكالات الاستخبارات في الدنيا، حيث يُطِلُ الجواسيس من نوافذه وأبوابه وبوابات حدوده على المنطقة بأسرها, يستقون الأخبار ويبثون الشائعات ويرشون الميليشيات ويحرضون زعماء الأحزاب والإعلام والطوائف وقادة المحاور والزواريب والحارات، فإذا بالتوتر يشمل البلد بأسره، وإذا بلبنان فجأة وبلا مقدمات يوضع، عنوة أو باختيار زعمائه، في عين العاصفة، على نحو يستعيد فيه اللبنانيون أيام الحرب الأهلية الدموية التي كادت ان تُطيح بالكيان ذاته وان تُحوله الى ميدان قتل بالذخيرة الحيّة، لا فرصة فيه للهدنة او الالتقاء في وسط الطريق ولا حتى الاعتراف بالشريك الوطني الآخر الذي لم يغادر متراسه في الجهة المقابلة لمتراس «العدو»، بعد ان فتحت, مخازن اسلحتها وخزائنها المُتخمة بالدولارات, ليواصل اللبنانيون اقتتالهم وليُصفّوا الحسابات بينهم امتثالاً لأوامر عواصم.ما علينا..
لبنان ومنذ «اتفاق الطائف» الذي لم يزد عن كونه صفقة بين دول عربية نافذة بمباركة اميركية وصمت «ايجابي» اسرائيلي, لم يَشفَ من امراضه وعِلله, بل بقيت النار تحت رماد الطائف وإن كانت معادلة التحالفات الاقليمية والدولية التي فرضت صيغة الطائف , قد تغيرت بل انقلبت, بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكُك الاتحاد السوفياتي وعربدة الامبريالية الاميركية التي افلتت «الحبل» لكلب حراستها في المنطقة, كي تمضي في تصفية القضية الفلسطينية مع الطريقة التي تُناسب مشروعها الاستيطاني الإحلالي, ولتكن هذه المرة عبر الطرف الفلسطيني نفسه ومُمثله الشرعي الوحيد منظمة التحرير الفلسطينية , تلك الاخيرة التي قبلت ان تعترف بها اسرائيل (وليس بدولة فلسطينية مستقلة) مقابل ان تنتزع من الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني , اعترافاً غير منقوص بشرعية احتلالها لفلسطين.
ماذا عن لبنان؟
المشهد اللبناني لم يتغير طوال الفترة التي اعقبت اتفاق الطائف 1989 وإن كان بروز «رجل الاعمال» والقادم الى عالم السياسة على ارصدته المليارية والدعم اقليمي... رفيق الحريري, وقد غيّر في «تركيبة» البيوتات والزعامات السياسية اللبنانية وخصوصاً الاسلامية السُنية منها, الا ان «اقتسام» لبنان بين الطوائف والميليشيات ولوردات الحرب ومشايخ وكرادلة المذاهب, استمر على حاله وإن بجشع اكبر واستهانة غير مسبوقة بالجمهور اللبناني, الذي وقع ضحية الفقر والبطالة وارتفاع الاسعار وتآكل الاجور وانهيار الخدمات والمرافق العامة, على نحو انكشفت فيه هشاشة الدولة اللبنانية وتصدع هياكلها. فلا ماء ولا كهرباء ولا خدمات بل أن «النفايات» كانت المجال «الاقبح» لإثراء الزعماء السياسيين على اختلاف شعاراتهم, ما شكّل صدمة لكل الذين ما يزال لبنان في نظرهم بلد الحريات والحداثة والثقافة, بل وربما الملاذ شبه الآمن لكل معارض عربي , حتى في ظل وحشية الانظمة العربية وشراستها ضد معارضيها في الداخل والخارج على حد سواء.
لبنان في انتفاضة 22 آب, ادهش الجميع – في الداخل والخارج – عدا الطبقة السياسية الفاسدة التي ما تزال مُصرّة على اقتسام «الكعكة» رغم احتجاجات الشعب وقرفه وسقوط هذه الزعامات في اختبار النتيجة الذي تجسّد ليس فقط في قمع المتظاهرين واطلاق الرصاص الحي على رؤوسهم بل وايضاً في ارساء عطاءات «النفايات» على شركات الزعماء أو اتباعهم, ما أجج غضب اللبنانيين وفسح في المجال أمامهم كي يواصلوا «ثورتهم» علّها تطيح ما تبقى من فساد وارتهان للخارج.
في السطر الأخير «هيدا» لبنان , الذي لا يكف عن الادهاش, لكنه من أسف – وايضاً – هذا هو لبنان الذي اهدرت زعاماته فرصة بنائه على أسس متينة من الديمقراطية والشفافية والاستقلال الحقيقي.