كنّا في الجلسة الأخيرة لمؤتمر «الأردن في بيئة إقليمية متغيرة-سيناريوهات للمستقبل»، وكان المتحدثون الأردنيون يذهبون في كل اتجاه، من نقد التباطؤ في مسار الإصلاح السياسي، إلى حديث عن نقص أو حتى غياب الإرادة السياسية للإصلاح، من قائل بوجوب تسريع هذا المسار كشرط لكسب الحرب على التطرف والإرهاب، إلى محذر من مخاطر الركون إلى الهدوء والاستقرار الظاهرين، واللذين يستبطنان الكثير من التهديدات والتحديات. بدأت أخبار المؤتمر لرئيس الوزراء تتوالى على الهواتف الذكية للمشاركين في المؤتمر، سرت للحظة مناخات إيجابية، حتى أنني خاطبت المتحدث الأخير في الجلسة الأخ علي أبو السكر، قائلاً: يبدو أن الحكومة عاودها الحنين لشهر العسل المديد مع الإخوان المسلمين، وها هي تشرع في نظم قوافي الغزل. والحقيقة أنه مخطئ تماماً من يظن أن قانون القائمة النسبية المفتوحة على مستوى المحافظة الذي تقدمت به الحكومة مؤخراً للرأي العام الأردني، قد أريد به «مغازلة» الحركة الإسلامية، فليس في أفق العلاقة بين الحكم والجماعة، ما يشير إلى أن صفحة التأزيم قد طويت، وأن صفحة الانفراج قد فُتحت... لكن الحركة الإسلامية، مثل غيرها، وأكثر من غيرها، لطالما اكتوت بنار «الصوت الواحد المجزوء»، وباستثناء بعض أصحاب المصالح الضيقة للغاية، يصعب أن تجد أردنياً واحداً، يؤيد استمرار العمل بهذا القانون، حتى وإن انبرى، لأسباب وحسابات جد مغلقة، للادعاء بأن أعرق الديمقراطيات، ما زالت تعمل بهذا القانون، في إشارة لبريطانيا، من دون أن يكلف نفسه، عناء البحث في المشترك والمختلف بين التجربتين الأردنية والبريطانية، من السياقات التاريخية العامة والخطوط العريضة، إلى أبسط التفاصيل. لكن من الطبيعي أن تشعر الحركة الإسلامية ببعض الانفراج وهي تقلب بنود مشروع القانون، وهي وإن كانت تريد شيئاً غير هذا، فأحسب أن ما تضمنه المشروع كفيل بانتزاع ترحيب متحفظ من قيادة الحركة، وبما يمهد لمغادرة مربع المقاطعة الضيق، إلى فضاءات المشاركة الأرحب...بهذا المعنى، يمكن القول، أن مشروع القانون انطوى على رسالة إيجابية، ويمكن النظر إليه بأنه محاولة للالتقاء في منتصف الطريق مع المعارضات على تنوعها، والإسلامية منها على نحو الخصوص. بيد أن ما حدث مع قناة اليرموك، يبعث برسالة في الاتجاه المعاكس... فجأة تكتشف الجهات ذات الصلة، ولا أدري عن أية صلة أتحدث، بأن هذه الوسيلة غير مستوفية بعد لكافة أوراقها القانونية، وأنها بهذا المعنى ليست «شرعية» تماماً، مع أن المحطة تبث منذ سنوات، ولقد استضافت على أثيرها وشاشاتها، عشرات إن لم نقل مئات الشخصيات الوطنية الأردنية من مختلف المشارب والاتجاهات، وكاتب هذه السطور لطالما حظي بشرف الإطلالة من على شاشتها، في عدة مناسبات خلال السنوات القليلة الفائتة، وأحسب أن القناة قد التزمت بالحد الأدنى من قواعد الخطاب الإعلامي، من دون إثارة وتجييش ومن ضمن سقوف معارضة محسوبة. غريب أمر الحكومة والسلطات والأذرع المنبثقة عنها والتابعة إليها... فجأة نكتشف أن جماعة الإخوان غير مستوفية شروط التأسيس والترخيص، ومتى؟... بعد سبعين عاماً على تأسيسها... وفجأة نكتشف أن القناة غير مستوفية كذلك لشروطها، وبعد سنوات من العمل على الأرض والبث إلى الفضاء... فمن هو الملام والحالة كهذه، هل هي قيادة الجماعة وإدارة المحطة، أم الجهات الرسمية المتعاقبة، التي قصّرت في أداء واجبها والقيام بوظائفها طوال هذه السنوات، وكم من المسؤولين يتعين علينا الزج بهم في أقفاص الاتهام بوصفهم مسؤولين عن هذا التسيب في إنفاذ القوانين؟ الأمر، يا سادة يا كرام، لا علاقة له بنقص الأوراق أو اكتمالها... المسألة ليست قانونية أساسا، لنخوض في جدل حول من المسؤول عن ماذا... المسألة في الحالتين، الجماعة والقناة، سياسية بامتياز، وتندرج في سياق سياسة التضييق والحصار المتبعة منذ زمن بحق الجماعة الأم... ولا أظن أن أردنياً واحداً، اشترى حكاية «عدم استيفاء» شروط التأسيس والترخيص والمزاولة... ولسنا بحاجة لوثائقي «الجزيرة» لنعرف ذلك، بل ولن نحتاج إلى استدعاء الشهود من وزير الإعلام الأسبق إلى نقيب الصحفيين الحالي، إلى غيرهم من أطراف وشهود، لنتعرف على وقائع المسألة. لكأني بمركز السلطة والقرار في الدولة، يبعث برسائل متناقضة، فهو من جهة يطرح مشروع قانون أثار ارتياحاً نسبياً في مختلف الأوساط الأردنية السياسية والمدنية، ولكنه من جهة ثانية، يذهب في موضوع «ضبضبة» الحريات إلى أبعد مما تخيلنا وقدّر غيرنا... أو لكأني بالبعض يريد للجماعة أن تشارك في الانتخابات القادمة، فيما البعض الآخر، يريد أن يدفعها دفعاً نحو قرار المقاطعة... هل نحن أمام لعبة واحدة، ذات حدين وسلاحين: جزرة الانتخابات وعصا «اليرموك» ومن قبلها الجولاني وبني ارشيد، أم أننا أمام تضارب في القراءات والتوجهات داخل مؤسسة صنع القرار، فريق يفتح باب للمشاركة وآخر يزرع طريقها بالألغام وصولاً للمقاطعة؟