«هؤلاء المرضى الذين يحكمون العالم» عنوان كتاب صدر، بالإنكليزية، في عقد الثمانينات من القرن المنصرم.
آنذاك، كان يحكم الولايات المتحدة المسنّ رونالد ريغان (لفترتين) ويحكم فرنسا المسنّان المريضان الرئيسان جورج بومبيدو وفرانسوا ميتران، وفي الاتحاد السوفياتي يوري أندروبوف وقسطنطين تشيرننكو، وفي الصين «عواجيز» الحزب الشيوعي!
الآن، الحكي هو عن شعوب شائخة (أوروبا مثلاً)، وأخرى فتيّة (أفريقيا والعالم العربي مثلاً). لكن مع بعض المفارقات اللطيفة ـ غير اللطيفة (بين فلسطين وسورية مثلاً).
في فلسطين، قيادة شائخة (في م.ت.ف مثلاً وبخاصة) وشعب فتيّ؛ وفي سورية قيادة شابة لشعب فتيّ. هذا ديمغرافياً، وأما ديمقراطياً وأمنياً وسياسياً، فلكل فلسطيني وسوري رأيه.
فلسطين في مخاض «تقرير المصير» دولة، وسورية في مخاض الوجود دولة.. وربما شعب.
الشعبان الفلسطيني والسوري شابّان، وتبدو الشبوبية السورية في تصنيف عالمي متقدم، حتى ضربها هذا الربيع العربي احتراباً وموتاً وخراباً.. وهجرة في النتيجة.
من بين عديد سكانها البالغ 23 مليون نسمة، هناك أربعة ملايين لجؤوا إلى دول الجوار، ومئات الألوف نجوا بحيواتهم وأولادهم إلى أوروبا.
هل انتهت سورية دولة، كما تقول إسرائيل الحاقدة، أم سيتلاشى السوريون شعباً؟
لنترك المقارنة بين فلسطين الفتيّة وسورية الأفتى، إلى مقارنة بين سورية وبلغاريا، وهذه الأخيرة ذات الـ 11 مليون نسمة هاجر 4 ملايين من سكانها إلى دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بحثاً عن حياة أفضل.
حدّثني صديق فلسطيني ـ بلغاري عمّا يتردّد في بلغاريا، حيث يقولون هناك إنه إذا استمر نزيف الهجرة فإن آخر بلغاري سوف يموت عام 2050.
ما لا يعرفه البعض أن أثرياء أوروبا الغربية وشركاتها في حمّى شراء للأراضي والأصول الوطنية البلغارية بأسعار يعتبرونها بخسة.
بلغاريا، عدا الهجرة، ستنضم خلال خمس سنوات إلى الشعوب الشائخة أو شديدة الشيخوخة، كاليابان أولاً، ثم إيطاليا فألمانيا.. وحتى كوريا الجنوبية، أيضاً، ستشيخ في العام 2017.
كان العراق دولة ذات شعب فتيّ كما سورية، وكانت إيران دولة شابة ديمغرافياً (سبعة أطفال للعائلة) والآن 1.6 لكل عائلة!
من بين دول أوروبا، فإن ألمانيا هي بلد الهجرة المفضّل، وسوف تستقبل هذا العام 800 ألف مهاجر، وفي الطليعة منهم سوريون وعراقيون.
هذه العملية تشبه «نقل دم» من شعوب فتيّة إلى دول ذات شعوب شائخة، مستفيدة من نزيف الدم فيها، ومن فرص الانخراط في أقوى اقتصاد أوروبي، سجّلت ميزانيته العامة فائضاً بأكثر من 5 مليارات يورو، سيذهب قسم منها لاستيعاب المهاجرين، وانخراطهم في اقتصاد البلد.
بصورة مأساوية، لا تجد الحركات الأصولية المتسببة الأولى في نزيف الهجرة ما تعمله سوى تغطية رؤوس النساء الغرقى في لجّة البحر بـ «الفوتوشوب» وأوهام «أسلمة أوروبا» حسب هذا القرضاوي وجماعته؟! من دعاة «الهجرة والتكفير».. إلى بلاد الكفّار؟
تاريخياً، وحتى سنوات قريبة، كانت سورية تستوعب، بترحاب، هجرات إليها، بدءاً من الأرمن والشركس إلى فلسطين والعراق وأكراد تركيا، أيضاً.
الآن، يبحث السوريون عن بلاد لجوء هاتفين في ألمانيا: «شكراً. نحن نحبّ ألمانيا.»
ألمانيا تبدو وقد غيرت نشيدها القومي ـ النازي «المانيا.. ألمانيا فوق الجميع» وغادرت هذه الشوفينية الآريّة ـ الهتلريّة، إلى بلد أوروبي هو الأكثر ترحيباً بالهجرة، لإنقاذ الشعب الألماني من شيخوخة شديدة، رافعة شعار «حقوق الإنسان» بينما دول ذات شعوب فتيّة تعاني من غياب الحقوق الإنسانية وهضم حقوقها كشعوب!
في المقابل، وبينما اضطهدت النازية يهودها ويهود أوروبا، وتسبّبت في إقامة إسرائيل، نجد هذه الدولة الأخيرة تغلق أبوابها عن استيعاب غير اليهود.
المسألة ذات شق آخر، غير ضعف مولودية شعوب أوروبا، وهو أن متوسط أعمار السكان ازداد، ومعه قطاع «المتقاعدين»، وصارت محتاجة إلى «نقل دم» وقطع غيار (اكسسوارات) لاقتصادها.
يهمنا أن الفلسطينيين يمكن أن «يشبّبوا» قيادة تاريخية شائخة، لكن الأهم هو التنمية الاقتصادية التي يعيقها الاحتلال، وإيجاد فرص عمل للشباب.. وإلاّ «مطرح ما بترزق إلزق»!
كانوا يقولون: القارة العجوز عن أوروبا، وها هي تجدّد شبابها باستيراد البشر، بعدما كانت تصدر الحروب إلى البشرية؟!