استبدال اسم مدرسة (غسان كنفاني) باسم مدرسة (مرمرة)، لم يكن خطأ إدارياعابرا ينتهي يمجرد التراجع عنه، بل إجراء ينتمي الى ثقافة إقصاء وإنكار الاخر. تلك الثقافة التي ترفض التعدد الثقافي والديني والسياسي وقيم المواطنة بمختلف عناصرها سيما الحقوق والواجبات المتساوية والاحترام المتبادل والتسامح والحق في الاختلاف. استبدال الاسماء الان لا يخلو من مغزى، استبدال اسم غسان كنفاني المثقف الثوري ورمز المقاومة ومنتج الادب المقاوم، والشهيد الذي استهدفته الكولونيالية الاسرائيلية بالتصفية الجسدية قبل 43 عاما. استبدال أحد أهم رموز الثقافة والمقاومة الفلسطينية والعربية، «بمرمرة» اسم السفينة التي أقلت المتضامنين الذين حاولوا اختراق الحصار الاسرائيلي لقطاع غزة، برمز تركيا البلد العضو في الناتو والتي ترعى التفاوض بين حماس ودولة الاحتلال – مع كل التقدير للمتضامنين-.
استبدال استفزازي يذكرنا باستبدال اسم مسجد «جمال عبد الناصر» باسم مسجد «سيد قطب « ثم باسم «مسجد البيرة الكبير». في الاستبدالين لم يحترم تنظيم الاخوان – حماس مشاعر ومواقف الناس. كان رد فعل المواطنين على تغيير اسم المسجد باستمرار اعتماد اسم جمال عبد الناصر، الاسم الذي ما زال قيد التداول لدى اكثرية المواطنين في محافظة رام الله والبيرة، ويستخدم في الاعلانات وفي التعريف بالمكان. وكان رد الفعل على تغيير اسم غسان كنفاني بإعلان الاحتجاج والسخط الذي دفع حركة حماس للتراجع ولاستبقاء اسم غسان كنفاني. لكن محاولة التغيير الجديدة نبهت الى وجود خطر اكبر وأعم، فماذا سيكون عليه الحال في حالة سيطرة حماس على الضفة الغربية؟ هل سيتم شطب اسماء ياسر عرفات وجورج حبش و إدوارد سعيد وجهاد الوزير ومحمود درويش وغيرهم من الرموز؟ هل يختلف تدمير داعش للكنوز الاثرية في تدمر عن شطب حماس لاسماء الرموز الوطنية والثقافية الفلسطينية؟
استبدال اسم باسم ورمز برمز مشكلة كبيرة عند الاسلام السياسي الذي لا يعترف بنضال وتضحيات وانجازات غيره. فالمقاومة بدأت فقط مع حماس بعد 22 سنة من اندلاع الثورة المسلحة التي فرضت حضور الشعب الفلسطيني على خريطة العالم السياسية، وأقر بها العالم لكن حماس والاخوان لم يعترفا بها. وعدم الاعتراف والانكار ادى في النهاية الى التطاول على قامة سامقة في الثقافة والمقاومة المبدع» غسان كنفاني».
ما حدث في مدرسة رفح هو بمثابة جرس إنذار يطرح البحث في كيفية التعامل مع أصحاب ثقافة الاقصاء والتفرد. فإذا كنا بصدد وحدة وطنية في مواجهة الاحتلال، إذا كنا نرغب في بناء مجتمع ديمقراطي حديث يواكب المجتمعات المتقدمة فإن ذلك يستدعي الإلتزام بالتعدد الثقافي والسياسي والديني الذي يرتبط اوثق ارتباط بالحريات الديمقراطية. البديل، او نقيض ذلك، هو اعتماد عقيدة شمولية غير قابلة للتصالح او التعايش مع غيرها، والشمولية وصفة سحرية لتفكيك المجتمع وهدم النظام السياسي والدولة. هذا ما حدث ويحدث في البلدان التي تقع تحت وطأة الشموليات على اختلاف انواعها.
إن المتتبع لتجربة حماس في السلطة وداخل المجتمع، سيجد دون عناء بحث، اعتناقها للنظام الشمولي الذي يستخدم التزمت الديني سلاحا في بناء سيطرة متدرجة على المجتمع والسلطة، من خلال فرض فلسفة حياة واسلوب عيش (ثقافة)، وتتجه نحو بناء دولة ثيوقراطية على مراحل، تبدأ بسلطة الرعية، النقيض لسلطة المواطنة. في الطريق الى ذلك سيجد المراقب منظومة القوانين التي تميز ضد نصف المجتمع، ونظام التعليم الذي يخضع لسيطرة وتحكم نافذين، ومؤسسة دينية لها اليد الطولى في التشريع وفي رفد مؤسسات السلطة بالعاملين وفي السيطرة والرقابة على المجتمع، وجهاز أمني مدعم بمليشيا عسكرية يحكم السيطرة المطلقة على المجتمع، بالى المستوى الذي باتت فيه السيطرة الامنية وامتلاك القوة بديلا للانتخابات والعودة الى صناديق الاقتراع، باتت فيه الراعي والرعية بديلا للمواطنة والتفويض الشعبي المنتظم. وثقافة ترفض الاختلاط، والموسيقى والغناء، والفلكلور، والتماثيل، والازياء التراثية التي استبدلتها بالحجاب والجلباب.
لقد قطعت حماس شوطا كبيرا في بناء أدوات وثقافة السيطرة في قطاع غزة، وتحتفظ ببعض المرونة التي يستدعيها التدرج وشروط الحصار المتعدد الاطواق الذي تعيشه بعد سقوط نظام الاخوان في مصر. مرونة حماس اوجدت هامشا لتعدد سياسي تحت أبط الحزب الحاكم «حزبها»، ووجود كتائب مقاومة للفصائل الاخرى تحت سيطرتها وتأتمر بقراراتها، إضافة للسماح ببعض الانشطة « ندوات وفيديو كونفرنس ومهرجانات لبعض الفصائل». هذا الهامش لا يتجاوز سقف سيطرتها الكلية، ودواعي التوظيف السياسي والدعاية الداخلية والخارجية. غير ان هذا الهامش مهدد بالانحسار والتلاشي في مراحل قادمة.
وقطعت حركة حماس شوطا ملموسا في بناء ثقافة السيطرة في الضفة الغربية ومدينة القدس. ساعدها ويساعدها في ذلك، مؤسسات التعليم والاوقاف والمساجد ولجان الزكاة ومؤسسات التجارة والمال التي تتبنى في معظمها الثقافة ذاتها برغم الاختلاف السياسي والتنازع الشديد على السلطة. ثمة تطبيع ثقافي وتنافس مع الشمولية الدينية في الضفة الغربية. تطبيع وتنافس كان من شأنهما توفير بنية تحتية مدعومة من موازنة السلطة تنطلق منها الشمولية الدينية للسيطرة على المجتمع. تماما كما فعلت انظمة عربية عندما ابرمت الصفقات مع الاسلام السياسي ضمن تقاسم وظيفي، يسيطر فيه الاسلام السياسي على المجتمع بالاستناد الى مؤسسات التعليم والاوقاف، ويسيطر فيه النظام على الدولة والامن، ويتشارك الطرفان في المشاريع الاقتصادية للربح السريع والنهب العشوائي. وكانت النتيجة سيطرة الاسلام السياسي المطلقة على المجتمع والتغلغل في مؤسسات الدولة. وقد مكن هذا الوضع حركة الاخوان المسلمين في مصر من مساومة الامريكان قبل واثناء الثورة ووضعهم امام مفاضلة اختيار التحالف مع نظام مبارك الذي لا يملك رصيدا شعبيا، أو، التحالف مع الاخوان الذين يسيطرون على المجتمع ويشكلون ضمانة لاستمرار علاقة التحالف في حالة صعودهم للحكم. وكانت النتيجة موافقة الامريكان على صعود الاخوان للحكم في مصر وفي ليبيا وتونس وفي سورية.
السيطرة الشمولية على المجتمع في الضفة عبر التعليم والمساجد والثقافة، تتم على قدم وساق بدعم سخي من الاتجاهات المحافظة في حركة فتح، ومن القوى الرجعية في المجتمع، ومن السلطة التي لا تتدخل لمنع التحولات، بل تقوم بتوفير المقومات المادية واللوجستية التي تسرع من عملية التحول.