سوسن الأبطح
عدد اللاجئين السوريين، في الدول المجاورة لسوريا، تجاوز بكثير عدد الفلسطينيين الذين تشردوا إثر حربي 1948 و1967. بات في لبنان وحده ما يزيد على مليون و200 ألف لاجئ سوري. رقم لا يقارب ذاك الذي تزودنا به جمعيات الإغاثة لأنها لا ترى غير المسجلين على قوائمها الرسمية. أحد العاملين المطلعين على استقبال اللاجئين يخبرني أن أكثر من 170 ألف سوري يدخلون لبنان شهريا، والرقم مرشح إلى تصاعد، وأن شهورا قليلة، قد لا تتجاوز نهاية العام، يرتفع خلالها عدد النازحين إلى مليوني شخص.
في الوقت الراهن، صار مقابل كل ثلاثة لبنانيين مقيمين سوري واحد، ونهاية السنة يصير عدد السوريين أكبر من تعداد أي طائفة من الطوائف الثلاث الكبرى، ويشكلون مجتمعا قائما بذاته. إسراع الدول الأوروبية لتخفيف الضغط عن لبنان، البلد الأصغر في المنطقة والأكثر تضررا من الحرب السورية، يبقى رمزيا، ومن باب المساندة المعنوية. نقل أربعة آلاف سوري إلى ألمانيا، ومثلهم إلى ثلاثة بلدان أوروبية أخرى، إذا تكرمت هذا الدول، بينما نتحدث عن ملايين يغادرون منازلهم إلى العراء، هي حلول من نوع المسكنات الرديئة.
إصرار الدول المعنية بالنزاع، على استمرار تسليح الأطراف، بانتظار تسجيل المزيد من المكتسبات على الأرض، سيودي بحياة مئات الآلاف من الضحايا، ويشرد ملايين جددا.
عرض بعض الدول الأوروبية استقبال السوريين المسيحيين فقط على غرار ما رأيناه بعد حرب العراق، خطة خبيثة ومخجلة، لدعم المزيد من الفرز الطائفي والتطهير العرقي المقيت في المنطقة، بعد أن أفرغت فلسطين والعراق وتفرغ مصر من مسيحييها.
أن يتفق اللبنانيون - الذين لا يتفقون على شيء - على إجراءات جديدة لتنظيم وجود السوريين في لبنان، معناه أن المسألة بلغت حدا خطيرا جدا.
الخطورة تطال السوريين قبل اللبنانيين. لم يكن متصورا، مع بداية الثورة، رؤية مستشفى يقرر إقفال أبوابه، ليضع ثلاثين جريحا سوريا على قارعة الطريق، في منطقة هي من بين الأكثر احتضانا للنازحين. لم يكن مقبولا في البدء، من أي بلدية أن تقرر حظر تجوال على النازحين بعد ساعة معينة، أو أن يسمح لقوى الأمن برمي محتويات عربة لبائع سوري متجول يخالف القانون.
الإجراءات الجديدة تتيح لرجال الأمن إقفال مئات المحال التجارية لسوريين، في منطقة واحدة فقط، مما يعني أننا أمام إغلاق آلاف المحلات، ومصادرة آلاف العربات المتجولة. قرارات جاءت بعد أن أصبحت المشاحنات بين اللبنانيين والسوريين على أشدها. هناك اعتداءات على سوريين متعددة الأشكال.. احتقانات، وإحساس أن ثمة تنافسا على لقمة العيش. يقول أبناء وادي خالد، إحدى المناطق الحدودية الشمالية، إن كل بيت يستقبل ما لا يقل عن تسعة سوريين، وإن المنطقة التي كان فيها أربعة جزارين، بات فيها أربعون بعد أن افتتح السوريون محلاتهم الخاصة.
يشتكي لبنانيون من أن الأولوية في العمل هي للسوريين لأنهم يقبلون بأقل من نصف الحد الأدنى، وكذلك لهم الأفضلية في السكن لأن الهيئات الدولية تدفع لهم الإيجارات الأغلى في ما لا يجد اللبناني مأوى. وأولاد بعض النازحين باتوا في مدارس خاصة، لا يقوى على دفع رسومها اللبناني. سائقو التاكسي بدورهم يتذمرون، ولا يملون من التأفف.
السوريون يتحدثون عن إحساس بالمهانة، وتعرض كبير للاستغلال الدنيء، يصل إلى حد الاستعباد. كل الموبقات باتت مسموحة في أجواء متشنجة، محتقنة، وقاسية على الجميع.
تحدث أحد المستشفيات في الشمال، عن عشرين ولادة يومية لنساء سوريات، والمستشفى بأكمله مخصص للسوريين، بينما يبقى اللبنانيون يصرخون على الأبواب ويحتجون لأنه لا أماكن لهم.
وصل إلى لبنان سوريون، هم من بين الأشد فقرا، وتمركزوا في غالبيتهم في مناطق تعتبر الأكثر عوزا. وتحول اللاجئ السوري الذي استقبل بحفاوة منقطعة النظير في بادئ الأمر إلى عبء لا يخجل مستضيفوه من التعبير عن استيائهم منه. هناك مئات التجمعات العشوائية السكنية. تغيرت معالم الشوارع بعد أن اجتاحتها سيول المشردين والمتسولين في العديد من المدن.
بؤس لا يستحقه السوريون، ولا أي شعب عربي، بعد أن أصبحت شعوب المنطقة كلها مرشحة للنزوح والتسول في بلدان الخراب والجنون.
هذا كله يبقى محتملا، لو لم تكن العوامل السياسية أكثر شرا من كل ما سبق.. فمع وصول صواريخ المعارضة والنظام إلى لبنان، بحيث تستهدف كل منها فئة تناوئها، وتهديد الحركات الإسلامية باستهداف حزب الله، وإعلانها مسؤوليتها عن أكثر من تفجير، تزداد الأمور تعقيدا والنفوس احتقانا، ثم تأتي الإعلانات المتلاحقة عن القبض على عدد كبير من السوريين، في عمليات اعتداء كبيرة على الجيش اللبناني، لتفاقم من صعوبة الوضع.
اتفق اللبنانيون على بعض الإجراءات الإدارية، لكنهم يختلفون حول إقامة مخيمات للجوء من عدمها. المثال الفلسطيني، لا يزال ماثلا للعيان. الطوائف في لبنان تزن أعدادها بميزان الذهب. وصول أغلبية سنية (80 في المائة من اللاجئين) يشكل ذعرا حقيقيا للبعض، وإذا ما أضفنا الولاءات السياسية، وتسرب أعضاء من «جبهة النصرة»، وجماعات من تنظيم القاعدة، فإن ذلك كله يجعل استمرار الحرب السورية، بكل ما يعنيه سقوط حمص الذي يبدو وشيكا، وهروب مئات المقاتلين الإسلاميين المتشددين إلى لبنان، من المفاصل التي ستجعل مأساة اللجوء - بعد أن يختلط السياسي بالإنساني - قنبلة موقوتة، معدة للتفجير.