أخر الأخبار
انتظار الحوارات المستحيلة
انتظار الحوارات المستحيلة



نسيم الخوري

تتشظّى العروبة ومعها العرب ويتخبّط المسلمون في معظم مدارسهم ورؤاهم، وتحديداً في الشرق الأوسط، في انتظار حواراتٍ أربعة:

- الحوار الذي سيدور بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل” في أمريكا، بمبادرة من وزير خارجيتها جون كيري الذي “فتح” كوّة حوارية في الجدار السميك للصراع التاريخي بين العرب و”إسرائيل” .

- الحوار الذي ينتظره العالم في جنيف 2 بين النظام السوري والمعارضة .

- الحوار اللبناني الذي بات لازمةً من لوازم الحضور اللبناني، يسكن في ذهن العارفين بمخاطر الأوضاع، وفي رأسهم الرئيس ميشال سليمان، لا بل من ضرورات رؤية الكيان اللبناني الذي يؤرّق اللبنانيين موالاة ومعارضة ووسطيين أي 8 و14 آذار، كما يشغل الأغلبية الصامتة أو المهجّرة والمهاجرة منه، بما يورث حالات من الرعب من أن تمتدّ النيران المشتعلة بأذياله الشمالية والشرقية والجنوبية إلى دواخله .

- حوار “حماس” والسلطة كون فلسطين هي الموقد، وحوار العرب والعرب والمسلمين في ما آلوا إليه . وهذا هو الحوار الأهم الذي لا يجب انتظاره .

حوارات منتظرة مشابهة في مصر وتونس وعواصم أخرى، تبدو كأنها فارغة، تنتظر نوعاً من الفراغ القاتل والحلول المستحيلة في أرض يتشابه قاطنوها في سبل العيش والجغرافيا والتطلّع إلى الاستقرار والمدنيّة . حوارات يبدو فيها الجميع وقد أدمن الانتظار أو ردود الفعل الدموية أو الملتبسة وكأنّه يستمدّ فلسفته وفكره من الأديان الدسمة التي تعصف بالحماسة والسلوك والاجتهادات والحروب المرعبة التي تظهر خروجاً نهائياً من العقلنة، وارتماءً محزناً أمام مجموعات من الخرائط والمشاريع التي ستسحب من واقعنا العربي، وكأننا طبخناها نحن فوق قدورنا عبر حفلات الدم والتمزيق، بينما هي في الأساس، مشاريع ووثائق مسحوبة من الجوارير العتيقة الدولية، ويجري حرق بعضها، وصولاً إلى تصفيتها وإعلانها .

المشترك بين هذه الحوارات كبير في سلبياته وأسبابه ونتائجه كما في إيجابياته البعيدة . والتشابه عظيم، والأدوات واحدة تتأرجح بين أربعة ميولٍ وصرخات:

1- أنا أقاتل إذن أنا موجود في الأرض je lutte donc je suis، وإن لم أحفظ وجودي فلي مقاعد يحفظها لي الدين أي دين توحيدي في السماء .

2- أنا أفكّر إذن أنا موجود أي Je pense donc je suis  وهي مقولة لم ولن تموت، وخصوصاً في نتائج انتظارنا مهما كانت . وعلى الرغم من غيابها أو عدم حضورها الفعّال في ما نحن فيه، فهي ترجعنا إلى مطلقها الفيلسوف والرياضي المعروف رينيه ديكارت( 1596- 1650) الذي دمغ عصر الأنوار في ثورات أوروبا، وكان أوّل من أسّس لماهية الفكر الحر الفردي معلناً العقل في بناء الدول وممارسة السياسة، بهدف التخلّص من كلّ الموروثات الجماعية والقبائلية والمجتمعية التي تلتمسها السلطات ورموزها البشرية باسم الدين، فتتلطّى بما ليس فيه من قيم وقواعد ونظم (حالة “ثورات” مصر وتونس وغيرهما) . جاء هذا الفكر بعدما غطست أوروبا، ومعها العالم من بعد، في أنهار الاغتيالات والمتفجرات الكثيرة التي خرّبت مجتمعاتها، ولا يزال دويّها يتردّد في تماثيل باريس وروما وبرلين وأثينا كما في فنونها المسرحية والزيتية وأشعارها وأدبياتها . صحيح أنّها مجتمعات، انتظرت كثيراً وبكت كثيراً وتدمّت قبل أن يتلقّفها نابليون بونابرت معلناً بالعنف تطبيق أفكار الحوار والحرية والمساواة التي أورثت البشر حربين عالميتين أخذتا بنيرانهما الملايين من الأبرياء، واكتوت بلظاهما صيغ متعدّدة من الأنظمة والدول والشعوب، التي كان فيها للفوضى ما لا يمكن رصده قبل أن تستقرّ الدنيا عند الفكرة الثالثة .

3- عندما سقط كلّ شيء، جاءت الفكرة الثالثة التي أطلقها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: أنا موجود إذن أنا أفكّر Je suis donc je pense، هي ليست فكرة بقدر ما هي تعبير صادق عن تقديم الوجود بالمعنى الجسدي والصحي والنفسي على العقل والتفكير . ما معنى وجودنا كبشر، إن كانت حياتنا مهدّدة بالموت المحتّم أو التشويه أو الاستعباد من حروب أو حفلات قتال مستحيلة؟ كان الرجل على حقّ عندما علّق ديكارت من رجليه؟ أيّ عقل يوصل إلى الحوار؟ كان بذلك قد أخرج البشرية المثخنة بالجراح إلى رفض الأنظمة في معظم صيغها، وذهب بالناس إلى الاستغراق في اللهو اليومي والملذات من مأكل ومشرب واقتناص لحظات للعيش إلى حدود اتّهامه بالدعوة إلى العبثية والغرائزية، وخلط حبره بمادة صهيونية وخصوصاً في كتابه الخطر والمهم: الوجود والعدم  .Lصetre et le neant .

يمكنني الإشارة هنا إلى الفكرة التي عمّمتها جماهير 14 آذار وغطّت بيروت بها داعية إلى حقّ العيش: نريد أن نعيش لا أن نموت . مرحلة مشابهة بعدما شبع اللبنانيون من الموت وتحوّلوا إلى العفوية في العيش حيث فوران الغرائز قبل أن يداهمهم الموت .

نحن اليوم في انتظار الفكرة الثالثة أي الحوار . أراها على مقياس العرب من دون اسثناء وأبتكرها بمعنى: أنا أحاور إذن أنا موجود je dialogue donc je suis .

في أيّ دائرةٍ نحن اليوم في لبنان وسوريا واليمن ومصر وتونس والعراق والصومال والسودان وليبيا ووووو...؟

نحن نتأرجح بين فكرة التقاتل المجاني وتدفّق الغرائز المجانية وفي حالة انتظار قاتل . يتراجع العقل لشدّة الموت وقد يعود المقاتلون في لعبة القتل إلى الغرائز بمعناها الفج . الحلّ في استنهاض العقل والحوار قبل أن تتثاقل، فلسطين، مثلاً، التي تقطّعت جغرافياتها وحوارات أهلها بين حماس والسلطة نحو تفريغ من أهلها عبر ترحيلهم خارج حدودها نحو؟ نحو سيناء كما تعبق الأجواء، لا نحو الأردن الثابت في مكانه كما هو ظاهر، أو يتقدّم لبنان، مثلاً ثانياً، نحو جبله القديم مثلما كان قبل إعلانه كبيراً في العام 1920 حيث تستعيد سوريا منه الأقضية الأربعة التي اقتطعت منها آنذاك أي البقاع وبعلبك وراشيا وحاصبيا . ماذا تفعل سوريا بتلك الأقضية؟

لا أجوبة واضحة بعد حيث الحوارات في ما بيننا مستحيلة ولا حوارات عقلانية مع الغرب . المهم أين سيباشر الفيلق الجغرافي تشققه . لا تنتظروا الحوارات الفارغة .