التحرك الروسي الأخير في الأزمة السورية أثار التساؤلات حول مصير الأزمة السورية، والحلول الممكنة والدور الروسي القادم، هذه التساؤلات التي دفعت الكثيرين للتحليل وإبداء الرأي، بل إن بعض من كتبوا بالموضوع ذهبوا إلى امتلاكهم حقائق يقينية عن مستقبل القضية السورية، وأن الحسم بدأ يتحقق لمصلحة النظام السوري.
وقبل الولوج إلى التحليل الذي تثيره التغييرات الأخيرة في المشهد لا بد من العودة إلى حقائق أساسية لا يجوز القفز عنها، حتى يكون التحليل واقعياً وليس ضرباً من ضروب التنجيم.
أولى هذه الحقائق أن الإعلان الرسمي عن وجود روسي في سوريا من قبل الجانب الروسي جاء اضطراراً وليس رغبة ذاتية في الإعلان، فصور الجنود الروس في سوريا عبر مواقع التواصل الاجتماعي فضحت التواجد الروسي، وارتبك الكرملين قبل الإعلان الرسمي.
أما الحقيقة الثانية فهي أن التواجد الروسي ليس تواجداً كثيفاً أو نوعياً بحيث يغير المسار العام للمعارك الدائرة في سوريا أو يغير في معادلة الأزمة السورية بصورة مؤثرة.
الحقيقة الثالثة أن روسيا أعلنت بوضوح أنها لن تنزل قوات على الأرض، وبالتالي فإن الروس لن يشتبكوا مباشرة في المعارك، وهو ما يعني أن الروس يدركون خطورة الانزلاق في المستنقع السوري، والكرملين يدرك خطورة عودة صناديق خشبية تضم رفات الجنود الروس في سوريا إلى موسكو.
أما الحقيقة الرابعة فهي أن أكثر من سبعين بالمائة من الأراضي السورية خارج سيطرة قوات النظام السوري، واستعادتها تبدو عملية صعبة ولا يمكن تحقيقها في وقت قريب أو متوسط، وربما تكون فاتحة لتقسيم سوريا على أرض الواقع.
وبناء على الحقائق السابقة فإن السيناريوهات على تعددها فإنها تدور حول نقاط ارتكاز رئيسة، أولاها أن الحل السياسي في سوريا لن يحدث في وقت قريب، فلا روسيا قادرة على فرض ظروف نوعية حقيقية جديدة لتحريك المسار السياسي، ولا الولايات المتحد جاهزة لمثل هذا الاختراق الكبير في الأزمة السورية، فمع بداية تشرين الأول يدخل البيت الابيض في نفق معركة الموازنة مع الكونجرس الجمهوري، ومع بداية العام المقبل يدخل السباق الرئاسي معركته المحتدمة فيصبح الرئيس الأمريكي شبه مشلول.
وثاني نقاط الارتكاز في التحليل أن تدخل روسيا في الأزمة السورية سيكون محدوداً هدفه الحقيقي الوحيد الحفاظ على المصالح الروسية في سوريا وتحديداً القاعدة البحرية في طرطوس، كونها القاعدة الروسية الأخيرة في البحر المتوسط، وبالتالي فالهم الروسي هو الحفاظ على منظومة الحكم في سوريا، وليس الحفاظ على رئيس النظام السوري بشار الأسد، أو الحفاظ على النظام نفسه.
وحين نتكلم عن المصالح الروسية في سوريا فإننا نقصد الأراضي التي ما زالت تحت سيطرة النظام وبعض الأراضي الأخرى التي تساعد على إمكانية الحياة للدولة السورية المستحدثة، أي بمساحة لا تتجاوز 35% من مساحة الدولة السورية قبل عام 2011.
وهو ما يعني أن القادم من الأيام سيشهد بعض المعارك لتحصين النظام السوري من السقوط، مع الاعتراف بالقوى الموجودة على الأرض بحكم الواقع، والتهيئة لتقسيم سوريا بصورة تتناسب مع الأوزان النوعية لتحالفات القوى على الأرض.
وبالتالي فاستعادة درعا من قبل النظام السوري في المقبل من الأيام، والمحافظة على مدينة حلب لايعني أنهما أكثر من أوراق سيتم التنازل عنهما بعد ما يقل عن عامين لمصلحة تحصن الاقلية العلوية في دولة ساحلية لها لسان بري يصل إلى حمص، وتضم السوريين المسيحيين الذين قد ينزحون من أماكن إقامتهم إلى المنطقة المحمية روسياً.
وبالتالي ستلعب روسيا دورين أحدهما سياسي وآخر ديمغرافي، الدور الأول، بصفتها قوى كبرى تحمي مصالحها بالوصول إلى المياه الدافئة، ويتمثل بضمان حماية منطقة جغرافية متصلة قابلة للحياة، وهو ما يمكن تسميتها بـ(سوريا الصغرى)، والدور الديمغرافي لروسيا بصفتها قوة مسيحية أرثوذوكسية تحاول تحقيق حلمها التاريخي بوجودها بثقلها الديني في المنطقة منذ الامبراطورية العثمانية، ويتمثل بخلق دولة أقليات (علوية، مسيحية، وبعض السنة في الساحل والقادمين من دمشق والذين ظلوا حلفاء للنظام السوري)، هذه الدولة التي ستكون دولة نخبوية ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، ومثالاً لتعايش الأقليات معاً، كما تأمل روسيا عبر تقديمها لهذا المثال الحي للدول المستحدثة في المنطقة.
قد يبدو هذا السيناريو غرائبياً في لحظتنا السياسية الراهنة، ولكن في المشهد السوريالي القائم في المنطقة سيكون هذا السيناريو ابناً للمدرسة الواقعية السياسية التي تفرضها الأحداث والتغييرات في المنطقة.