منذ مدة تنشط عصابات المستوطنين بدعم واسناد من جيش الاحتلال بالهجوم المنظم على المسجد الاقصى عبر اقتحامه، كما تستمر وتيرة الاستيطان بدرجة عالية ويبنى نظام المعازل والتمييز العنصري بالضفة الغربية ، من خلال تحديد طرق خاصة للمستوطنين إضافة لتوفير الموارد والفرص المادية والاقتصادية لهم بهدف تعميق الاستيطان الأمر الذي سيتكرس به نظام الابارتهايد العنصري وسيتم التهام مساحات واسعة من الأرض وزج التجمعات السكانية في معازل تحكمها إدارات محلية أو اية قوة متوافقة مع الاحتلال .
ربما ادركت حكومة الاحتلال أن الفرصة اصبحت مواتية ، بسبب الانقسام الفلسطيني الداخلي والاضطراب العربي الكبير الذي يشهد حالة من التمزق والتفتيت من خلال الصراعات المذهبية والجهوية والدينية والعرقية والرامية إلى إعادة تجزئة وتقسيم الوطن العربي وانهاكه واستنزافه وتسليم أوراقه إلى القوى الاستعمارية التي ستستمر بتحكمها بالموارد والثروات وباحتجازها لأية امكانيات للنهوض والتقدم العربي ، لان ذلك مقلق لها ويشكل تهديداً لمصالحها .
لقد قامت دولة الاحتلال برصد ردود الفعل الفلسطينية سواءً الرسمية أو الشعبية وكذلك العربية و العالمية تجاه اعتداءات المستوطنين المستمرة وتجاه قضية مخيم اليرموك الذي تم تهجير سكانه بوصفه واحداً من أهم مراكز اللجوء الفلسطيني ، إلى جانب رصدها لردود الفعل تجاه حصار قطاع غزة والعدوان المستمر عليه والذي كان آخره في عام 2014 ،حيث كان الأكثر دموية وقسوة وشراسة .
إن رصد دولة الاحتلال لردود الأفعال ساهم بتشجيعها ، فأقصى ما يمكن ان تقوم به السلطة هو الاستمرار في خطاب الضحية امام الأمم المتحدة ثم العودة للمفاوضات بموافقة الرباعية بعد توسيع عضويتها وفق شروط فلسطينية " محسنة " ، وعلى قاعدة قضية حل الدولتين الذي طال انتظاره ، أو العضوية بالمحافل والمنظمات الدولية ، والتهديد اللفظي بحل السلطة ولكن سرعان ما يتم التراجع عن ذلك بسبب الضغوطات الاسرائيلية الرامية إلى وقف تحويلات المقاصة والضغط على المانحين لايقاف المساعدات إلى جانب التهديد بسحب بطاقات الشخصيات الهامة " VIP " إذا ما أقدمت السلطة على تهديداتها وخاصة تهديد وقف التنسيق الأمني والذي استثمرت به اسرائيل والولايات المتحدة عبر الجنرال " دايتون " بهدف بناء اسس ومرتكزات التعاون الأمني المستمر مع دولة الاحتلال في مفارقة غريبة وهي الأولى من نوعها بالعالم ، عبر قيام سلطة وطنية بحماية امن الاحتلال علماً بأنها أي السلطة من المفترض ان تساهم في خوض مسيرة الكفاح الوطني من اجل تحقيق التحرر والعودة .
أما ردود الفعل الشعبية ، فحتى الآن تعتمد على المبادرات الفردية والانفعالية والتي تعكس نزعات وغيرة وطنية من خلال تواجد المرابطين والمرابطات بالحرم القدسي، وعبر الهبات الشعبية وأعمال التصادم مع جنود الاحتلال إضافة إلى العمليات الفردية ذات الطابع العنيف حيث لم تصل درجة التصادم إلى مستوى من المتابعة والاستمرارية في ظل غياب القيادة الوطنية الموحدة واستمرار حالة الانقسام وعدم توفر أرادة كافية لدى السلطة بالانخراط في هذا المسار بل سرعان ما يتم النكوص عنها عبر العودة إلى آليات التنسيق الأمنى حتى ان لجان الحراسة الشعبية رغم قوة وحيوية ووجاهة الفكرة واعتبارها أداة كفاحية وشعبية هامة لم نلمس اسساً واضحة تضمن استمراريتها وتواصلها ليس فقط كلجان للحراسة ولكن كأداة تعبئة وتحريض وتحشيد في مواجهة الاحتلال وقطعان المستوطنين .
وعلى الصعيد الدولي فلم يتعد الأمر عن الدعوات باتجاه ضبط النفس والعودة إلى المفاوضات والاستنكار على أحسن التقديرات ، علماً بأن ردود الفعل العربية تندرج ايضاً في هذه الدائرة ولا تتجاوزها ، وذلك عبر مناشدة العالم والامم المتحدة بالتدخل لوقف الاقتحامات واعمال العدوان الاسرائيلي ليس إلا .
إن ردود الفعل الواردة اعلاه شجع قادة الاحتلال للاستمرار قدماً في مشروعهم الرامي إلى تصفية القضية واغلاق ملفها عبر تهويد القدس والسيطرة عليه وتقسيمه زمانياً ومكانياً وتحويل التجمعات السكانية إلى إدارات ذاتية في معازل وبانتوستانات إلى جانب الاستمرار في عزل وحصار قطاع غزة .
لقد اعتقدت ان اللحظة السياسية مؤاتيه لتنفيذ ذلك إلا أن ردود الفعل التي ازدادت مؤخراً على الصعيد الشعبي وتم رفع من وتيرتها قد اربك حسابات حكومة اليمين المتطرف في اسرائيل ودفعها للتروي قبل التفكير باتجاه اتخاد مزيداً من التصعيد في خطواتها التوسعية والاستيطانية والعدوانية ، هي تريد تهدئة الاوضاع قليلاً لكي تستكمل تنفيذ مشروعها ولكن بدون ردود فعل شعبية تستحضر تضامن دولي وخاصة على مستوى الشعوب .
إن ما يحدث يشكل دفاعاً شعبياً جماهيرياً عن الذات وردود افعال طبيعة وليس مبادرة فلسطينية تؤسس لانتفاضة ضمن شعارات واضحة كما تم بالانتفاضة الأولى .
يختلف ما يحدث الآن من هبة شعبية انفعالية هذه الايام في مواجهة المستوطنين عن الانتفاضة الكبرى ، حيث كانت الأولى ذات شعارات وأهداف واضحة محددة بالحرية والاستقلال وكانت تقودها قيادة وطنية موحدة ، كما تختلف عن الانتفاضة الثانية والتي أراد بها الرئيس الراحل ياسر عرفات خوضها بهدف تحسين شروط التفاوض ورفضاً لمقترحات الرئيس كلنتون في كامب ديفيد عام 2000 ، وبهدف دفع المجتمع الدولي لتقديم مقترحات افضل للفلسطينيين تنسجم مع الحد الأدنى من اهدافه وطموحاته .
وإذا كان الظرف الموضوعي فلسطينياً ناضجاً لاندلاع انتفاضة بسبب استمرار الاحتلال وممارساته العدوانية وتوسعه الاستيطاني ، فإننا بحاجة إلى اتضاح الشروط الذاتية لاندلاعها وقياداتها لتستطيع تحيق اهدافها بإنهاء الاحتلال وتحقيق التحرر الناجز.
إن المدخل الهام لانضاج العامل الذاتي للانتقال من حالة ردود الافعال إلى الفعل الكفاحي المنظم يكمن في انهاء الانقسام وإعادة بناء م. ت.ف كمعبرة عن الهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة على قاعدة تضمن مشاركة الجميع بها تنفيذاً لاتفاق القاهرة من خلال الاطار القيادي المؤقت للمنظمة ، وعبر البرنامج السياسي الذ تم اقراره ايضا والمستند إلى وثيقة الاسرى التي سميت وثيقة الوفاق الوطني ، كما يكمن ذلك في اعادة تعريف السلطة كأداة تنفيذية وإدارية للمنظمة والشروع باتخاذ خطوات تدريجية ومدروسة بفك الارتباط السياسي والامني والاقتصادي مع دولة الاحتلال ، واللجوء إلى بدائل جماهيرية وتحالفات دولية بديلة عن الرهان عن الخيار الامريكي ادراكاً من الجميع بأن هناك تحولات كونية في هذا المجال من خلال ازدياد الدور والنفوذ الروسي والذي برز مؤخراً بوضوح في سورياً وكذلك تنامي وتعزيز الدور الصيني الاقتصادي العالمي وعبر تكتل مجموعة البريكس واستخدام الوسائل القانونية والدبلوماسية لتعزيز الاعتراف العالمي بدولة فلسطين والعمل على عزل دولة الاحتلال كدولة استعمار واستيطان وتمييز عنصري .
لا يمكن نجاح أي عمل كفاحي شعبي او انتفاضي دون توفير العامل الذاتي الذي يكمن بالقيادة والبرنامج الموحد وكذلك الاتفاق على أشكال النضال المناسبة القادرة على تحقيق الهدف ، حيث اجمع الفلسطيني باتفاق القاهرة على خيار المقاومة الشعبية وهي مقاومة ذكية تستطيع ان تربك حسابات الاحتلال وتضمن المشاركة الشعبية وتحقيق التفوق الاخلاقي وزيادة حدة التعاطف الدولي مع قضيتنا وتعمق العزلة تجاه دولة الاحتلال ، حيث من الهام ان تتوافق المقاومة الشعبية مع الجهد القانوني عبر التوجه لمحكمة الجنايات الدولية وكذلك مع نشاط حملة المقاطعة " BDS " إلى جانب النشاط الدبلوماسي بالمحافل الدولية .
إن دور قطاع غزة يجب ان يستمر في اسناد العمل الشعبي بالقدس والضفة وذلك عبر ابتداع وسائل كفاحية شعبية ايضاً وتضامنياً مثل المظاهرات والاعتصامات الجماهيرية وتسيير سفن قوى التضامن لفك الحصار عن القطاع وتوحيد الشعارات الوطنية حول الحرية والاستقلال والعودة على قاعدة ان الضفة بما في ذلك القدس والقطاع يشكلون وحدة سياسية وجغرافية وقانونية واحدة .
من المناسب ان يبقى الخيار العنيف اداة تهديد يستخدم بالوقت المناسب وإلا فإن استخدامه بدون حسابات سيعمل على افقاده لدوره ومكانته النوعية وربما يجر إلى ردود فعل غير محسوبة ربما لا يتحملها الوضع الراهن في القطاع كما يبعد الانظار نسبياً عن المعركة الأساسية بالضفة والقدس .
يجب ان لا يفهم من ذلك اننا بحاجة إلى الانتظار لإنجاز الخطوات الواردة اعلاه ،فاللحظة الثورية لا يتم تحديدها إدراياً وبيروقراطياً كما لا يتم تصميم الانتفاضة وفق تفصيلات هندسية محددة مسبقاً ، فالعمل الجماهيري يتواتر ويتدافع وبالتالي فهو يخلق الصيغ والآليات المحددة له القادرة على صيانة وحدة المجتمع وتلاحمه بالتفافه حول اهدافه بالتحرر الناجز ، كما يستطيع الحاق الخسائر السياسية والاقتصادية والمعنوية في صفوف الاحتلال ويضمن تحقيق التأييد والتضامن الدولي مع حقوق شعبنا .
ممكن ان يتم البدء عبر التشديد على أهمية الابقاء والاستمرار بلجان الحراسة الشعبية وتشكيل جبهه مقاومة شعبية موحدة وبالتزامن يتم اتخاذ خطوات من السلطة تحررها من الارتباط بالاحتلال ، وكذلك اعادة بناء وتوحيد م.ت.ف ، بما انها خطوات متلازمة ومترابطة وجذرية لانضاج العامل الذاتي لتستطيع قيادة الجماهير لتحقيق اهدافها .
إن تطابق العامل الذاتي مع الموضوعي هو وحده الذي يعزز شروط نجاح العمل الانتفاضي الشعبي ، فهل تستطيع تحقيق ذلك ؟؟؟ .