بالرغم من مرور أكثر من عشرة أيام على الهبة الشعبية الأخيرة التي بدأت في القدس ثم انتقلت بسرعة إلى الضفة وقطاع غزة وداخل الخط الأخضر، حيث شباب وشابات فلسطين يواجهون المستوطنين والجيش الإسرائيلي في مشهد بطولي رائع للدفاع عن القدس والأقصى ،وبالرغم من سقوط أكثر من عشرين شهيدا والف جريح ...، ما زال البعض حذِرُ في وصف ما يجري بأنه انتفاضة ثالثة ،بل وهناك من يشكك بإمكانية اندلاع انتفاضة ثالثة ضد الاحتلال الإسرائيلي وبجدواها وخصوصا إن اخذت طابعا مسلحا من طرف الفلسطينيين .هذه المواقف ينبني على قراءة سلبية لنتائج الانتفاضتين السابقتين – الانتفاضة الأولى 1987 وانتفاضة الأقصى 2000 - ،وعلى الاختلال البيِّن في موازين القوى بين الفلسطينيين والإسرائيليين بالإضافة إلى حالة الانقسام الفلسطيني وفوضى العالم العربي .
الأمر هنا لا يتعلق فقط بالسلطة الفلسطينية أو مسؤولين ينتمون لها يعبرون عن خشيتهم من أن حالة فوضى تسببها انتفاضة مسلحة غير منظمة وليست محل توافق وطني ،قد توظفها إسرائيل لخلط الأوراق وتحويل الشعب الفلسطيني من ضحية إلى مذنب ، بل إن الأحزاب والفصائل الفلسطينية حالها كحال السلطة الوطنية ما زالت في حالة تردد وأرباك ،سواء فيما يتعلق بتوصيف ما يجري أو في المشاركة فيه رسميا وعلنيا ، وخطابها وإن كان يبارك ما يجري ويدعو للانتفاضة إلا أن هذه القوى والفصائل ما زالت خارج الفعل الحقيقي على الأرض ،وفي حالة انتظار وترقب . كما أن السلطتين في غزة والضفة متخوفتان من أن تؤدي الانتفاضة إلى سقوط سلطتيهما وليس إنهاء الاحتلال.
الجدل حول قيام انتفاضة ثالثة ليس بالأمر الجديد بل إنه صاحب الجدل والمناكفات السياسية بين السلطة الوطنية ومعارضيها خلال السنوات الخمس الماضية على اقل تقدير، كما كان التفكير بهذا الأمر يشغل قادة الحرب والسياسيين الصهاينة كلما طعن فلسطينيا مستوطنا أو قام بدهسه أو جرت عملية لإطلاق النار على إسرائيليين، فالخوف من انتفاضة فلسطينية شاملة للضفة والقدس وغزة وأراضي 48 – انتفاضة ستة مليون فلسطيني - يعتبر أهم ما يشغل قادة الاحتلال وهو الخطر الحقيقي الذي يهدد دولة الاحتلال .
فقد أدى وقف المفاوضات الرسمية عام 2010 إلى التساؤل عن البديل لفشل المفاوضات وكيفية الرد على التعنت الإسرائيلي على طاولة المفاوضات وعلى مواصلة عمليات الاستيطان والتهويد في الضفة والعدوان العسكري على غزة. وفيما طرحت منظمة التحرير والرئيس أبو مازن آنذاك سبعة خيارات كبديل للمفاوضات المتعثرة، كانت المقاومة الشعبية السلمية إحداها دون توضيح لمفهوم هذه المقاومة الشعبية ونطاقها وأدواتها ، طرحت قوى المعارضة وخصوصا حركة حماس المُسيطرة على قطاع غزة خيار المقاومة المسلحة و الانتفاضة المفتوحة على كل الاحتمالات كخيار بديل لفشل المفاوضات .
خلال خمس سنوات من وقف المفاوضات الرسمية وانغلاق أفق التسوية السياسية جربت منظمة التحرير كل خياراتها البديلة وأهمها الذهاب للأمم المتحدة والاعتراف بفلسطين دولة غير عضو تحت الاحتلال والذهاب لمحكمة الجنايات الدولية ،بالإضافة إلى تحريك أو السكوت عن أشكال من المقاومة الشعبية كمقاطعة بضائع المستوطنات داخليا وحراك دبلوماسي خارجي لكشف الممارسات الصهيونية الخ ، وفي المقابل خاضت حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي ومعهما فصائل أخرى من منظمة التحرير ثلاث مواجهات عسكرية مع جيش الاحتلال داخل أراضي قطاع غزة وعلى حدوده ،وتم استعمال كل أنواع السلاح في هذه الحروب التي لم تجلب إلا مزيد من الشهداء والجرحى والمعاناة والدمار.
ولكن بعد كل ذلك، وبعد أن استنفذت منظمة التحرير والسلطة والفصائل المعارضِة لهما كل خياراتها، وبعد ما جرى سواء كانت إنجازات وانتصارات لخيار الدبلوماسية والعمل السلمي كما تقول منظمة التحرير والسلطة، أو إنجازات وانتصارات عسكرية لخيار المقاومة كما تقول حركة حماس وأحزاب أخرى .... بعد كل ذلك فإن فلسطين كل فلسطين ما زالت تحت الاحتلال، والاستيطان والتهويد متواصلان بل أكثر شراسة واستفزازا، وحصار غزة واذلالها وفصلها عن بقية الوطن ما زال متواصلا، والأهم من ذلك انغلاق أفق أية تسوية سياسية قادمة تلبي ولو الحد الأدنى من الحقوق الوطنية التي تعترف بها الشرعية الدولية للفلسطينيين، كما تراجع المراهنة على المقاومة المسلحة كخيار بديل للعملية السياسية.
لا شك أن الحق بمقاومة الاحتلال سواء سميناه حربا شعبية أو مقاومة شعبية أو كفاحا مسلحا أو انتفاضة أو حق الدفاع عن النفس الخ حق وثابت وطني ما دام الاحتلال قائما على أرضنا، والأمم المتحدة اعترفت بفلسطين دولة تحت الاحتلال مما يشرعن أي عمل ضد جيش الاحتلال ومستوطنيه. إنه حق يستمد شرعيته من القانون الطبيعي والشريعة الدينية والشرعية الدولية، وبالتالي ليس من حق أحد آن يتصرف بهذا الحق ما دام الاحتلال جاثما على أرضنا. الحق بمقاومة الاحتلال يستمر ما دام الاحتلال موجودا، وحتى من منطلق الاستراتيجية السياسية سيكون من غير المنطقي والعقلاني أن يُعلن أي مسئول فلسطيني التخلي عن الحق بمقاومة الاحتلال ،كما لا يجوز التفريط به من خلال هدنة مع العدو أو اتفاقات موقعة معه، إلا بقرار من الشعب وبإرادته الحرة، حني الدساتير لا يجوز أن تتضمن نصوصا تقول بإلغاء الحق بمقاومة الاحتلال. كما لا يجوز لأي مسئول أن يسقط الحق بمقاومة الاحتلال وفي نفس الوقت يطالب المجتمع الدولي بتطبيق قرارات الشرعية الدولية، لأن الحق بالمقاومة جزء من الشرعية الدولية.
الحالة الفلسطينية بكل تشعيباتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تبرر الانتفاضة، ولا ندري إن لم ينتفض الفلسطينيون اليوم حيث كرامتهم تُمتهن من الاحتلال والحصار وأرضهم تسرق كل صباح ومقدساتهم تُدنس كل يوم وأفاق المستقبل مظلمة مدلهمة لا تمنح ولو بصيص أمل لأجيال المستقبل، فمتى سينتفضون ويثورون ؟! . اتفاق أوسلو والتنسيق الأمني في الضفة الغربية ،كذلك اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقعته حركة حماس مع إسرائيل بعد عدوان 2014 وما يُقال عن مفاوضات حول هدنة طويلة المدى، لا يبررا الوقوف في وجه شعب يريد أن يدافع عن وطنه ومقدساته ،الحق بالمقاومة وبالدفاع عن النفس فوق كل اتفاقات والتزامات، ولكن على الفلسطينيين التوافق على استراتيجية وطنية للانتفاضة تأخذ بعين الاعتبار اختلاف الظروف والاحوال الوطنية والعربية والدولية الراهنة عما كان عليه الحال خلال الانتفاضتين السابقتين ،وبالتالي لا يمكن استنساخ تجربة أية من الانتفاضتين السابقتين .
بالرغم من أن الحراك الشعبي الراهن جاء في ظروف مغايرة للانتفاضتين السابقتين ،إلا أنه يكشف ويؤكد على حقائق ثابتة:
1- الأولى أنه لم يعد مجالا لأي مراهنة على العيش المشترك تحت الاحتلال بين الفلسطينيين أصحاب الأرض من جانب والاحتلال والمستوطنين في الضفة والقدس من جانب آخر، وعملية الطعن والدهس رسالة تؤكد ذلك.
2- ينبني على ما سبق حقيقة ثانية لمسها العالم وتجاوب معها، وهي أن الحل لن يكون إلا بقيام دولة فلسطينية مستقلة خالية من الاستيطان والمستوطنين.
3- والحقيقة الثالثة هي أن الانقسام والاحتلال لم ينجحا في كسر وحدة الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده وخصوصا داخل فلسطين التاريخية، حيث بوادر انتفاضة ستة ملايين فلسطيني ضد دولة إسرائيل إن لم يسارع العقلاء في إسرائيل للانفصال عن الفلسطينيين ومنحهم دولة مستقلة.
4- إن خيارات الشعب أوسع وأكثر تحررا من خيارات النخب السياسية الحاكمة في الضفة وغزة، وأن الشعب الفلسطيني لم ولن يستسلم للأمر الواقع ولن يسمح بتصفية قضيته الوطنية بسبب خيارات فاشلة لنخب سياسية مأزومة، بل يملك وسائل نضالية غير خياري المفاوضات العبثية والمقاومة المسلحة الفصائلية الأكثر عبثية.
لذا فإن المطلوب اليوم استراتيجية وطنية لانتفاضة شعبية موجهة وتحت السيطرة وبدون سلاح ورصاص من طرف الفلسطينيين، وبدون شعارات كبيرة غير قابلة للتحقيق، وبدون مزايدات سياسية بين الفصائل. انتفاضة بأهداف وطنية محل توافق وطني، انتفاضة سلمية قدر الإمكان تنسجم وتتوافق مع حالة التأييد العالمي مع عدالة قضيتنا ومعاناة شعبنا، انتفاضة تعمل وتتوافق مع الشرعية الدولية والقانون الدولي وتؤكد على خيار السلام العادل. المطلوب انتفاضة شعبية تعزز الحراك الدبلوماسي الفلسطيني الهادف للانتقال من مرحلة سلطة حكم ذاتي محدود وحالة انقسام إلى تحيين وفرض الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والغربية وقطاع غزة عاصمتها القدس الشرقية كما اعترفت بذلك غالبية دول العالم.
لكل ذلك لا نتردد بأن نؤكد على أهمية انتفاضة سلمية منظمة وعقلانية ، هدفها استنهاض الهمة والشعور الوطني وطرق جدران الخزان ووقف الممارسات الصهيونية في القدس والاقصى، انتفاضة تسعى لتحريك الركود في عملية السلام ودفع العالم للاهتمام بالقضية الفلسطينية وتحسين الشروط الفلسطينية في أية تسوية سياسية قادمة ، وليس هجر خيار التسوية السياسية والانجرار لمربع الحرب والعنف المسلح كما تريد إسرائيل.
نعم فلتكن في البداية انتفاضة تحريكية كحرب أكتوبر التحريكية من حيث التخطيط المسبق والأهداف الواضحة ،على أمل أن تكون نتائجها أفضل من نتائج حرب أكتوبر، إن لم يحدث ذلك ودخلت الانتفاضة في دوامة المزايدات والمناكفات السياسية واستعراض القوة بين الأحزاب الفلسطينية فسيتم الالتفاف إسرائيليا على الانتفاضة بسرعة ،ولن يحصد الفلسطينيون إلا مزيد مع الضحايا والمعاناة. أما في حالة عدم تجاوب إسرائيل والعالم مع المطالب الفلسطينية المشروعة واستمرت في انتهاك المقدسات والاستيطان ، فلا أحد يستطيع وقف الانتفاضة بل وتحولها لثورة ومقاومة مفتوحة على كل الاحتمالات .